بدا المشهد الإعلامي الفلسطيني في الأيام الأخيرة مهتماً بتحليل أبعاد ما سُمّي (اعتذار حسين الشيخ) عن اغتيال الناشط السياسي نزار بنات. حسين الشيخ هو وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية وعضو مركزية حركة فتح، لكنّ مهماتٍ وملفاتٍ متنوعة ومتعددة تتراكم وتتكاثر على كاهله، فيبدو للمتابع عن بعد أو قرب أنه الشخصية المركزية الأبرز التي تمثل السلطة وسياساتها، وتنطق باسمها، وإن كان التعبير يهوي به في أحيان كثيرة، بحيث يغدو مادة للتندر والتداول الإعلامي، كما حدث يوم وصف عودة التنسيق الأمني مع الاحتلال بالانتصار الفلسطيني، وهو الأمر الذي علّق عليه نزار بنات في حينه، بجرأة ووضوح، وببلاغته الوطنية المعهودة، وهو ما استجلب لنزار غضب حسين الشيخ، وغيره من قيادات السلطة السياسية والأمنية، إلى درجة القناعة بضرورة التخلص من الرجل، أملاً في إنهاء الحالة التي يمثلها، أي تلك الصراحة القوية المتسلحة بمنطق فصيح المعنى والمبنى، وغير الآبهة بسطوة أو سلطة أو تهديد.
مرّ أكثر من شهر على اغتيال نزار، أو على الأصحّ: على تلك المرحلة القمعية الجديدة التي أرادت السلطة في الضفة تأسيسها بهدر دمه، بعد اطمئنانها إلى حتمية تفرّها في القرار السياسي وإدارة مختلف مكوّنات المشهد الفلسطيني، لاسيما في مناطق نفوذها، وحيث تصل يد تهديدها أو أموالها السياسية، التي تمنحها أو تمنعها وفقاً لقانون الولاء الأعمى لها.
خلال هذا الشهر لم تحدث بادرة إيجابية من أي نوع، يمكن أن تشي بندم السلطة على حادثة الاغتيال، أو استعدادها لمحاسبة الجناة وآمريهم، ولم يتوقف التحريض والتشويه الذي يمارسه ذباب السلطة الأمني الإلكتروني ضد مزعجي السلطة ومنتقدي سياساتها، وضد الفاعلين ميدانياً في قضية نزار وغيرها من قضايا الحريات، وهذا المسلك يبدو أكثر ما يعبّر بجلاء عن طبيعة السلطة، ذلك أن المحاسبة ستعني أن من اتخذ قرار الاغتيال ينبغي أن يحاسب أيضا، وهو قد يكون في أعلى هرم السلطة، مثلما أنها (أي المحاسبة) ستحول في المستقبل دون امتثال العناصر الأمنية لأوامر الاعتداء والتعذيب أو القتل، إذا تطلّب الأمر ذلك، وإن سلطة بمثل هذه الهشاشة شعبياً وسياسياً لا يمكن أن تتخلى عن عنصر القمع الأمني، ولا عن أدواته، حتى لو كانوا من صغار العناصر، فالتضحية ببعضهم الآن ستصعّب إيجاد غيرهم غداً، و(المجرم الأداة) محتاج لغطاء مطَمْئن من الأمان لكي ينفذ جريمته دون تفكير بثقل التبعات.
في ظل هذه المعطيات، يبقى أسف حسين الشيخ على حادثة الاغتيال مجرد محاولة عبثية جديدة لتزويق الوهم وتمريره، هذا فضلاً عن أن حديثه الأخير كان ضمن لقاء مع وسيلة إعلامية غربية، وجاء تحت ضغط الإحراج ومحاولة التهوين من شأن الحدث على أمل النجاح في تخفيف الضغط الحقوقي الدولي الذي تتعرض له السلطة، وقد تواجه معضلاته في الأيام القادمة.
لم يخرج وزير الشؤون المدنية أو عرّاب التنسيق الأمني باعتذاره عبر بيان رسمي يمثل قيادة السلطة، لكنه تحدث عن الأمر في وسيلة إعلام غربية، مع أن الاعتذار الرسمي الصريح (عند حدوثه) لا يعدّ كافياً لإغلاق القضية، ما لم يُحاسب كل المتورطين فيها، وما لم تكفّ السلطة عن سياساتها القمعية متعددة الاتجاهات، وما لم توقف ما كان ينادي به نزار بنات دومًا، أي إنهاء التنسيق الأمني مع الاحتلال، وكل متعلقاته.
وعلى الرغم من كلّ محاولات السلطة طمس القضية أو تجاوزها بحيث تغدو من الماضي، إلا أنها ما تزال تواجه معضلة كبرى، وهي تلك الممانعة العالية التي تبديها عائلة نزار بنات، وفطنتها لكل أساليب الالتفاف على جريمة الاغتيال، ووعيها بطبيعة الخلفيات لردود فعل عناصر السلطة على الجريمة، وتلك حالة نادرة من الوعي والصمود والجسارة التي يمكن لعائلة بلا ظهير أن تبديها وتتمسك بها.
كنا نقول دائماً إنه في ظل وجود نزار وصوته وآفاق امتداده، لم تكن ثمة حاجة لكي نضيف جديداً على قراءته الفريدة للواقع، ويمكن اليوم أن نقول إنه في ظل وجود عائلة نزار، ومعها أصدقاؤه ومن حملوا قضيته، ليس لنا أن نخشى من تمييعها أو إماتتها أو الالتفاف عليها، فحتى لو لم تتحقق المحاسبة في المدى القريب، يكفي أن تظل قضيته واضحة ومدوية، وصائغةً رمزياتها النبيلة الخاصة والخالصة، والمحافظة على درجة سموّها العالية، على الرغم من طنين التصريحات المتلعثمة والجوفاء، والمصدّرة للزيف.