قائمة الموقع

​وطبقٌ من يديك كــعسل الجنة

2017-06-04T08:56:51+03:00
صفاء غيث (15 عاماً) تتوسط إخوتها

"أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي، وشُدي وثاقي بخصلة شَعر، بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبك"، بالمعاني التي تفيض بها أغنية مارسيل خليفة، وبما يملؤ صوت أبي من حُب وحنين وهو يُحدثنا عن سنينه الأولى معكِ: عن أول رمضان قضاه إلى جانبك، وأول دعوة تكللت بـــ"آمين" من عمق قلبيكما، وعن أول صلاة للتراويح لكما معًا، وعن ذكرياتكما بحلوها ومرّها.

وبشوق إسراء وهي يحلو لها دائماً أن تتأمل ملامح خالتي سماح, التي تُشبهكِ كثيرًا كما لو أنكما توأمان.

وبعيني أحمد ترمقان بغبطة زملاءه في المدرسة الذين يصومون "صوم العصافير" بتشجيعٍ من أمهاتهم، وهو الوحيد بينهم لا أم تُحفزه.

بكل ما في قلوب أطفالك الخمسة من احتياج لوجودك بينهم: لحنانك، ومَرحكِ، وخوفك الدائم علينا، حتى عصبيتك الجميلة؛ بكل هذا يحّل علينا رمضان _يا أمي_ منذ خمسة أعوام، وكم تمنينا أن يكون غيابك الطويل ما هو إلا كابوسًا سنصحو منه، ولكن الحقيقة أنه ينخر فينا يا أمي، حتى شعاع الشمس حين يتسلل من نافذة بيتنا إنه يفعلها على استحياء.

لم تُحبي قط العبوس في وجه الحياة، مهما كانت الظروف، ونحن نحاول أن نأخذ هذه الصفة عنك، كنتِ تُقدمين لنا الحياة على هيئة قطع سكاكر لتُرضي الله فينا، صحيح أن آخر عهدي بكِ حين كنت في الصف الخامس وها أنا الآن في الصف التاسع، لكنني أتذكر جيدًا صوتك الرنان الذي ينضح حيوية وحياة، ما بين وظيفتك والبيت كنتِ أمًّا فريدة من نوعك، تحاولين بكل الطرق ألا نكون عائلة تقليدية، تبتكرين طرقًا للسعادة، وبشخصيتك الاجتماعية تطيّرين شذى الود بين زوجات أعمامي في البناية.

ليرضَ الله عنكِ يا أمي في جنات النعيم، أنا واثقة بأنك تسمعينني، وكيف لكِ ألا تعرفي صوت "بِكركِ" صفاء؟!، أتذكرين إذا ما اجتمعنا وكنّا صامتين كُلٌّ يلهو بلعبته، فتتذمرين من حالة الصمت والانشغال؛ فما تلبثين أن تجمعي الألعاب من أيدينا بكل رشاقة، "لماذا نحن مجتمعون إذا لم نتحدث ونتسامر معًا؟!" هكذا كنتِ تقولين، ثم تُشعلي الموسيقا وتُصفقين لنا ونرقص, تُغني لنا، ونتباهى بصوت ماما العذب، نُغضِب بابا فنحتمي بكِ منه، ننتظر بشوق

أعياد ميلادنا كي تُبهجينا بمفاجآتك الجميلة.

كنت أنا وأختي أسماء متلاصقتين إلى أبعد حد، ذات يومٍ مرضت هي بالإنفلونزا فأصررتُ على الاقتراب منها لأمرض مثلها، نمتِ ليلتها بجانبنا وانتقلت إليك العدوى، حينها كنتِ حاملًا في شهركِ الثامن، وذهبت إلى المستشفى في حالة طبيعية، فإذا الأطباء قرروا إبقاءك في العناية المركزة، وفيما بعد أخبرنا أبي أنه حدثت أخطاء طبية قاتلة، ثم وضعتِ أختي دعاء مباشرة وأنت في غيبوبة، لم تتمكني من رؤيتها وفارقتي الحياة بعد ثلاثة أيام من الولادة.

جميعنا يا أمي نتذكر كم كنتِ فرحةً بخبر حملك بدعاء، يومها عدنا إلى البيت وإذا أنت تقيمين مفاجأة على هيئة حفلة، أين بيتنا من جو الفرح الذي كنتِ تصنعينه لنا؟!، نحاول تقليدك ولكننا لسنا ماهرين مثلك في نثر الفرح، الآن فقط فهمت أنه أمرٌ من اختصاص الأمهات.

يُغادرنا رمضان تلو الآخر، ونحن مازلنا عند الساعة الأخير من نهاره بهدوء تام، واشتهاء غير معقول إلى مائدة الإفطار التي كنت تعدّينها كما لو أنك تفكين شيفرة معادلة في الإحصاء، بحكم عملك في هذا المجال، أما بابا المعروف بـــــ"الأستاذ حمدي" فلا يزال قلبه يخفق بــــ"نيفين"، ودائمًا ما يشهد أن مذاق أطباقكِ لا يغادر فمه وكأنه عسلٌ من الجنة.

تشتاق مائدة الإفطار عند رفع أذان المغرب إلى كفيك ترفعينهما إلى الله، تتلين أسماءنا واحدًا واحدًا؛ فما حالفنا من توفيقٍ إلا وكان من بركة دعاء أمنا.

وفي العيد نشتاق إلى جدالاتنا في السوق بشأن أي الفساتين أجمل، كنت تكادين تشدين شعرك وأنتِ تحاولين عبثًا إقناعي بما يعجبكِ ولا يعجبني, ثم تنزلين عند رغبتي؛ "المهم يعجب صفاء" كنت تقولين هذا، وعندئذٍ أخفي ضحكة النصر.

كان يغمرنا أمان لا تصفه كل المفردات حين نسمع صوتكِ يُرفع إلى الله: "إني استودعتك أبنائي فاحفظهم يارب بحفظك الجميل"، وتراتيلك للأذكار تُحصننا من شرور الدنيا.

دعاء التي نناديها بـــــ"دُودو" شاء الله ألا تُكحل عيناها بنورك، لا أنتِ أشبعت غريزة الأمومة فيها, ولا هي عاشت طقوس الحب على أصوله كما عشناه نحن، ليست محظوظة أختي الصغيرة إلا بتسعة أشهر فحسب قضتهم في ضياء رحمك.

اعرف أن "مُدللة" بابا ستكبر, وستكفّ ذات يوم عن ضحكاتها البريئة؛ لتسألنا عن ماما نفين؛ ليست هي فقط بل إسراء أيضًا التي غادرتِها وهي بعمر ثلاث سنوات؛ وأحمد بعمر الخمس؛ ستكون لحظة صعبة فمن أين سنبدأ وكيف سننهي الحديث عن نهرٍ حب نهلنا منه وما ارتوينا.

لا تحملي الهم يا ماما؛ ثمة تفاصيل جميلة غرستِها فينا نهتم بها ونُمارسها مع دودو, نُفرحها كما لو أنكِ بيننا؛ فنجومك الخمسة (صفاء وأسماء وإسراء وأحمد ودعاء) وقمرك بابا سيكونون أوفياء لكِ، وحين نكبر سيقول الناس جميعًا: "هده تِرباية نيفين".

فلتهنأ روحكِ بسلام، وكما أظللتِ حياتنا بعناقيد الحب والأمان أسأل الله أن يُظلك برحمته ومغفرته.

اخبار ذات صلة