قائمة الموقع

الحاجّة المقدسية "عزيزة الأطرش": على أعتاب الأقصى أرصد تاريخًا حالكًا لاحتلال زائل

2021-07-18T08:24:00+03:00
أم غسان.. من نافذتها تتأمل الأقصى وترصد أحداثه

وبعض الأماكن هي جنان الله في أرضه، من وجهة نظرنا نحن على الأقل؛ ترانا نعشق سُكناها، تسكُننا قبل أن نسكنها، ذكرياتنا تتوزع في كل زواياها في أحلامنا وآمالنا وأحزاننا وأوجاعنا، حنيننا لأحبائنا يرتبط بحجارتها وهوائها ومائها وتربها وكل شيء فيها، خيوط رقيقة جدًّا تراها عيون قلوبنا تشدنا إليها، لا سبيل للتنكر لها أو التخلص منها، لأن أنفسنا قبلتها طائعة وعشقتها، قد يختار الناس القصور، وآخرون قد يختارون الحدائق الغناء والشواطئ الرائقة والأسواق التجارية الكبيرة، أما أنا فأختار البلدة القديمة، وأختار أعتاب المسجد الأقصى ببساطتها وعبق التاريخ فيها، أتمسك بحجارتها المصفرة المتآكلة وأروقتها الضيقة وبيوتها العتيقة ذات الأقواس والقباب، واكتظاظها الذي لم يزد أصحابها إلا تمسكًا بها.

لا تستعجبوا؛ فنحن الفلسطينيين لنا مع الأماكن حكايات عجيبة لا نملُّ سردها، أليست هذه الأماكن تسكن القلوب والأرواح وتلتصق بكل خلية فينا؟! أليست هي الوطن والهوية والذاكرة العزيزة التي تجوبها الروح بلا ملل؟! وهي الفضاء الرحيب الذي يضمنا إلى صدره بحنو بالغ، ولا يضيق ولن يضيق علينا يومًا، مهما ضاقت علينا الأزمنة والأمكنة.

قبل خمسة وثمانين عامًا تحديدًا في عام 1936 ولدت في حارة المغاربة بالبلدة القديمة، أحداث عظام كانت تجري في البلاد، لم أدركها ولكني أدركت آثارها عندما كبرت، ولمن لا يعرف تمامًا مصطلح البلدة القديمة أقول: إنها المنطقة التي تقع داخل سور مدينة القدس القديمة الذي بناه السلطان سليمان القانوني وما يزال يحيط بها محاولًا حمايتها من المعتدين، وفيه يوجد أحد عشر بابًا ما يزال الزُّوار يلجون منها إلى البلدة القديمة حتى أيامنا هذه، مثل: باب العمود، وباب الخليل، وباب الأسباط، وباب الساهرة، وغيرها.

تزوجتُ وسكنتُ حي باب السلسلة برفقة زوجي الذي كان يعمل مدرِّسًا في مدرسة دار الأيتام الصناعية بالبلدة القديمة، وفي عام 1958 انتقلت إلى السكن في جزء مقتطع من المدرسة الأشرفية التي بناها السلطان الأشرف قايتباي المملوكي في الجهة الغربية من المسجد الأقصى فوق باب السلسلة، بعد أن استأجرناه من الأوقاف الأردنية، ولما كانت المدرسة الأشرفية وقفًا إسلاميًّا حالها حال كثير من الأبنية الأخرى المشابهة في القدس، فإنه يحق للمسلمين الانتفاع بها مقابل أجرة محددة يدفعها المنتفع للأوقاف، أجرينا داخلها بعض التعديلات تتناسب مع احتياجاتنا العائلية.

منذ اللحظة الأولى كانت عيون المحتلين مصوَّبة نحو المدينة المباركة، يتطلعون إلى اغتصابها والسيطرة عليها، في عام 1948 استطاعوا احتلال غربي القدس، رغم أن القدس كانت وستبقى عربية إسلامية، لا شرقية ولا غربية، استوطنوها وأصبحت شوكة في حلقنا تؤلمنا جدًّا.

وفي عام 1967 في حرب الأيام الستة (وتُسمى أيضًا حرب حزيران) دخل موشيه ديان بجيشه القدس مكملًا احتلالها، وكانت أسود أيام حياتي على الإطلاق!

لم يهدأ الطيران الحربي يومها عن التحليق، ولا أصوات القذائف والانفجارات وإطلاق النار، سيطر علينا رعب وانكسار وذل لم نشهد لها مثيلًا من قبل وهم يدمرون مقرات الجيش الأردني في الشيخ جراح وبقية المناطق، وهل هناك ذل أكبر من أن يدنس أبناء القردة والخنازير مدينتنا ومقدساتنا تحت سمعنا وبصرنا؟! تمكنوا من دخول البلدة القديمة بعد محاصرتها، وانتشروا في أزقتها يفتشون عن مقاتلين، صعد الغرباء المحتلون درج المدرسة التي نسكنها بعد أن حطموا الباب الخارجي برصاصهم وفتشوا بيتنا.

وقبل أن تمضي 24 ساعة على احتلال مدينتنا المقدسة، ولم نكن قد أفقنا بعد من الصدمة، تسللت إلينا أخبار إنذارات هدم حارة المغاربة!

استيقظنا من ليلة ليلاء لم يجد النوم فيها سبيلًا إلى عيوننا على صراخ هَلِع في كل مكان، اكتظت الأزقة بأناس مذعورين يولون الفرار بحثًا عن ملاذ آمن، بعضهم فرَّ بنفسه من حارة المغاربة، وبعضهم ركض يحمل أطفاله و"بُكج" خفيفة من بعض الحاجيات والطعام، ومنهم من مشى على عجالة يقود رجلًا شيخًا أو امرأة عجوزًا أو كليهما، ومنهم أيضًا من حمل عجوز على ظهره لعله ينجو بها من موت محقق، وتفرق الناس، منهم من فرَّ إلى داخل البلدة القديمة، ومنهم من رحل إلى محيطها، وقلة قليلة ركبت حافلات كانت تنتظر الناس أمام باب العمود لتنقلهم إلى الأردن في رحلة لم يتمكنوا من العودة منها إلى هذه البلاد مرة أخرى.

كان القلق يفترسني وتحاصرني المخاوف على أهلي وجيراني ومعارفي في حارة المغاربة، أنتظر على أحر من الجمر خبرًا يُسكن روحي ويطمئنني عليهم، وما إن مضى بعض الوقت، حتى بدأت حقيقة ما جرى تتكشَّف، لقد هدموا الحارة بالكامل، سووا البيوت والدكاكين والمصليات بالأرض بكل ما تحتويه، ولم يُعطوا أهلها فرصة لاستخراج ما يلزمهم منها، ومنْ رفض الخروج أو تأخر، لم تتردد الجرافات في تقويض البيت فوق رأسه، لم يهمهم أحد، كانوا على عجلة من أمرهم يريدون إفراغ المنطقة من أهلها وساكنيها، وتغيير معالمها وفرض واقع جديد عليها في أقل وقت ممكن.

رحل أهلي وسكنوا الوادي في بيت صديق آثر الهروب مؤقتًا إلى الأردن، وحافظوا بذلك على البيت من مصادرته بحجة أنه يعود لأملاك الغائب، وبقيتُ أسكن بيت الأشرفية برفقة زوجي وأطفالي، ولا تزال أحداث تلك الأيام محفورة في ذاكرة أبنائي وتوجعهم.

يستفزني ويحرق دمي رؤية الصهاينة يدنسون أقصانا ويقتحمونه ويمارسون طقوسهم في ساحاته، فتعود بي الذكريات إلى اليوم الأول الذي احتلوا فيه القدس ومضوا يمارسون طقوسهم فيه، وكأنه حدث بالأمس، وما يزال ممتدًا، وأتمنى أن أرى زواله بعيني.

تتابعت المحطات الحالكة منذ غدت القدس مدينة محتلة ولم يتوقف التدنيس فيها، ففي صبيحة يوم 21 آب من عام 1969 علا صراخ في المسجد الأقصى، وسمعت أحدهم يقول: "قطعوا المياه عن المسجد الأقصى"، أسرعت إلى نافذتي أستطلع الأمر، فإذا دخان أسود كثيف يملأ الجو، وأعداد مهولة من الناس تحاول إطفاء حريق شب داخل المصلى القبلي بملابسهم ودلاء ماء أخذوا يحضرونها من البيوت المجاورة.

وما أقساها من لحظات! المسجد الأقصى يحترق، نور عيني تلتهمه النيران، لطفك بنا يا إلهي!

صرخت بي إحدى الجارات: "خذي صغارك واهربي؛ النيران تمتد بجنون، وستصل إلى الأشجار عما قريب وتمتد إلى بيتك، أنقذي نفسك وأبناءك".

ولكني قلت بإصرار: "أنا وأبنائي لسنا بأغلى من المسجد الأقصى، فإما أن يبقى ونبقى، وإما أن يحترق ونحترق معه".

وأخذت أستغيث بعيون باكية وقلب يحسن الظن بالله: يا إلهي، أنقذ المسجد الأقصى بقدرتك!

ساعات عدة مرت عليَّ أسود من ليالي كانون الظلماء، التهمت النيران مساحات كبيرة من أقصانا، والتهمت معها قلوبنا!

وتلتها أيام سود وليالٍ غاية في القسوة، فماذا أقول عن يوم مجزرة الأقصى في 8/10/1990 عندما دخلت جماعات "أمناء الهيكل" المتطرفة وحاولوا وضع حجر الأساس لهيكلهم المزعوم فيما يسمى "عيد العُرُش" في الأقصى؟! عاجلت شرطة الاحتلال التي تحرسهم يومها إلى إمطار المصلين الذين هبوا للدفاع عن مسجدهم بالرصاص الحي، ارتقى 21 شهيدًا ووقع عدد كبير من الجرحى، كان الرصاص يتطاير في كل مكان، شاهدت من نافذتي ما يجري واستغثت برب العزة أن يحمي الأقصى وأهله، كان أبنائي الكبار في أعمالهم في مناطق مختلفة من القدس، والصغار منهم في مدارسهم في وادي الجوز، أغلق جيش الاحتلال المنطقة إغلاقًا تامًّا إلى درجة أن أبنائي لم يستطيعوا العودة للبيت، ولولا الأصدقاء الذين أبقوهم في بيوتهم لما كنت أدري ما سيحدث لهم في هذه الأوقات العصيبة.

وهل لكم أن تسمعوا مني عن محطة أخرى من محطاتنا الحالكة؟ هل تذكرون اليوم الذي اقتحم فيه شارون المسجد الأقصى؟ عايشت ذلك اليوم بأدق تفاصيله التي ما تزال توجعني حتى الآن رغم مضي أكثر من 21 سنة على ذلك، ما إن أنهى الخطيب خطبة الجمعة حتى علا صوت الرصاص وانطلقت التكبيرات تصدح في أرجاء المسجد الأقصى، سارعت إلى نافذتي كما جرت العادة، شاهدت أناسًا مضرجين بدمائهم، ممدين أرضًا، وأناسًا يتساقطون بشكل مرعب، حالة من الفوضى العارمة تملأ الساحات، مصلون من جميع الأعمار يركضون في اتجاهات مختلفة، وعدد هائل من جنود الاحتلال يملؤون ساحات الأقصى ويركضون أيضًا، كان القناصة يتحصنون فوق الأسطح ويقنصون المصلين بالرصاص الحي، قاوم المصلون بالأحذية والكراسي وكل ما توافر لهم داخل ساحات الأقصى، وغدا تدنيس شارون لأقصانا الفتيل الذي أشعل نار انتفاضة الأقصى التي امتدت خمس سنوات.

لم يتوقف التدنيس والاستفزاز اليوميان، ولا أظن ذلك يحدث ما دامت القدس تحت سيطرة محتل همه سرقة الأرض والمقدسات وتهجير الناس من بيوتهم بالقوة، رغم أنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن هذا ليس من حقهم، صعوبات تقف في وجوهنا لأننا اخترنا البقاء في المدينة المباركة، عقبات لا تنتهي نصطدم بها يوميًّا ليس أولها الضرائب الخيالية المفروضة علينا ومنع التوسع والبناء، وليس آخرها التفتيش على البوابات وضرورة الحصول على إذن من شرطة الاحتلال لإدخال جرة غاز للطبخ أو شراء جهاز كهربائي للبيت.

مرات عديدة أغلقوا فيها بوابات الأقصى وتركونا محتجزين في بيوتنا ممنوعين من الحركة إلى الخارج، في هبة البوابات الإلكترونية مثلًا، وفي إغلاقات كورونا، وفي كل حدث يمسُّون فيه أمن الأقصى وقدسيته؛ يغلقون علينا باب المدرسة بأقفال من الخارج، وإذا احتجنا لشيء نقف خلف النافذة، ننادي على أفراد الشرطة الذي يمرون من أمام باب السلسلة أسفل بيتنا، تمر أحيانًا مدة طويلة حتى يستجيب أحدهم ويقتنع بمسوغنا ليفتح لنا القفل لنخرج لقضاء حاجاتنا ونعود بالطريقة ذاتها، حتى أبنائي منعوهم من زيارتنا طوال مدد الإغلاق، لم يسمحوا لأحد بزيارتنا حتى في العيد، رغم أني تقدمت بطلب للسماح لأبنائي بزيارتنا.

حاولت الأوقاف استرداد البيت مني بعد وفاة زوجي، ووعدوني بتأمين بيت آخر، ولكني رفضت بقوة وقاومت وتمسكت بهذا البيت، فكيف لي أن أخرج من المكان الذي أسكنني إياه زوجي ولي في كل شبر منه ذكريات عزيزة تربطني بالمسجد الأقصى؟! سأحيا في هذا البيت وأموت فيه بإذن الله.

اخبار ذات صلة