فلسطين أون لاين

الاحتلال تسبب بإعاقته وذيل توقعيه على شطبه من السجل المدني

المقعد "إياد" وطفلته "نغم" وزوجته الحامل .. (إسرائيل) جهزت لهم نعشًا واحدًا

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

يلقى إياد صالحة (35 عامًا) وهو يجلس على كرسيه المتحرك؛ نظرته على عقارب الساعة التي وصلت في دورانها دون تكاسل عند الثالثة عصرًا في اليوم التاسع للعدوان الإسرائيلي على غزة، قبل أن يضع في فمه لقمة الغداء الأولى؛ ثم ما لبث أن كسر صمته متوجهًا بنظره نحو والدته التي تهم هي وأخوته لمغادرة المنزل للاطمئنان على اخته، يلمح تشبث طفلته الوحيدة نغم (ثلاث سنوات) بقدم جدتها وكأنها تتشبث بالحياة "أمانة يا ستو خديني معك على عمتي".

- أخدها؟..

تطلب الأم الإذن من ابنها بعدما استدارت نحوه؛ وهي التي لم ترفضُ طلبًا قط لحفيدة العائلة الأولى، لكن ذلك قوبل بالرفض "خليها يا  أمي تسليني في غيابكم وتتغدى".

بقي إياد الذي يسكن بدير البلح وسط قطاع غزة، في شقتهم داخل عمارة العائلة، يتناول الغداء مع زوجته "أماني" الحامل بنهاية شهرها الثامن، كان الفرح يقف على أعتاب بابهم ينتظرون قدوم ولي العهد "عبد الفتاح"، أما نغم فكانت تواصل عزف ألحان أسئلتها البريئة لوالديها إن كانت ستحتفظ بدالهما بعد قدوم شقيقها أم لا.

في المشهد عيون تنظر للحياة والفضاء الواسع، تتوهج منهم ابتسامة مشرقة وضحكة صافية مثل سماء في يومٍ معتدل، يدقُ الفرحُ طبوله بداخلهم، يجتمعون على مائدة الحب الأسري، لكن على الطرف الآخر كان هناك من يجهز له كفن الموت.

ابتعدت أم إياد وابنها عمر وبعض اخوته لمسافة مئتي مترٍ عن باب المنزل، قبل أن تهتز أجسادهم بعدما اهتزت الأرض من تحت أقدامهم بسبب صوتٍ صاروخ سقط على مقربة من المكان، "الله يستر مين ضاربين" لم تستطع أم إياد حبس تمتماتها.

رمقت ابنها عمر بنظرها وهو يضع الهاتف على أذنه ..

ينصت عمر لصوت قادم من سماعة الهاتف: "الحق ضربوا داركم؟"، رأت أطرافه وصوته يرتجف "مالك؛ ايش بتحكي؟"، لم تستطع حباله الصوتية اخراج كلمات لإشعار أمه بما جرى، أومأ برأسه كإشارة يطلب منهم اللحاق به، يجر صوته المرتجف صارخًا: "بالدار إياد.. ونغم .." تنادي والدته بفزعٍ تجمع في ملامحه الهول: "إياد ماله؟ .. ماله؟"، ترك الخبر يصلهم  محمولا مع الهواء بعدما ابتعدت المسافة بينهم صارخًا: "اليهود قاصفين الدار".

مسافة بين الموت

وأنت تسمع بقية القصة، عليك أن تنصت بقلبك وكل جوارحك وأن تأذن لدموع بالجريان، فصوت الوجع هنا يخرج من شقيقٍ لم تفصله المسافة بينه وبين الموت الذي طال شقيقه سوى خمس دقائق ومشاهد تحبس الأنفاس: "وصلت البيت رأيت آثار القصف قد طال شقتنا فقط، صعدت الدرج مسرعًا لأدخل المنزل على مشهد مرعب، رأيت إياد أشلاءً لم يظهر منه سوى رأسه، ألقى الصاروخ بنغم في طرف آخر من الشقة محترقة ممزقة، مزقت الصواريخ جسد زوجته الحامل وجنينها عبد الفتاح".

عمر الذي لطالما حمل أشلاءً ممزقة لجيران أو مواطنين في أحداثٍ أخرى؛ لم يكن يعلم أن وطأة حمل أشلاء أخيه سيكون أثقلُ من حمل جبلٍ شاهق الارتفاع، لأول مرة انهارت قواه ارتجف كل شيءٍ في جسمه، "هدول مش دمى، هدول بشر، عائلة كانوا عايشين بتنفسوا، ترجع تلاقيهم أشلاء وين بتصير وبأي قانون" .. تسلع صوت عمر دمعاتٌ التصقت بأحباله الصوتية.

انطلقت من شقيقه ثورة كلمات غاضبة يطلق على المحتل رشقات من اللعنات غادرت مرابض القهر المتيبسة على قلبه منذ قتل شقيقه وعائلته "هذا هو بنك أهداف الاحتلال شخص مقعد من ذوي الإعاقة الحركية لا يستطيع المشي، وطفلته نغم، وزوجته الحامل، عن أي جرمة أتحدث، وعن أي رحيل أبكي (..) كلما أتخيل الموقف ويتكرر المشهد الذي رأيته يكاد يجن عقلي فلم أتخيل أن تصل بشاعة جرائم الاحتلال لقتل عائلة بهذا الشكل، ربما لو تدمرت كل بيوت غزة وبقي بيتنا أخر بيت لن أتوقع أن يتم استهدافنا".

"أتدري لماذا؟" .. لا زالت الدموع تأبى أن يواصل صوته بالتحرك دون مرافقته "احنا ناس غلابة، ملناش بتنظيمات، ناس فقراء حياتنا ولقمتنا على قدنا".

ابتسم صوت والدته ابتسامة من بقايا حطام الفقد ترحل لبقية حوارها مع نجلها إياد قبل مغادرة المنزل:

- شو رأيك تيجي معنا؟

- بدي اروح اشوف اختك اطمن عليها..

- توكلي على الله أنا قاعد بالدار الوضع بطمنش برا

- طيب أخد نغم بدها تيجي؟

- لا بخاف عليها، بس هاتيلها حاجات معك، ونفسي أكل من ايديكِ "حلبة" بس ترجعي

تبلل الدموع صوتها، ينسكب الحزن على قلبها تلسعها ضحكة ممزوجة بمرارة الفقد "كنا ننتظر بفارغ الصبر واللهفة قدوم عبد الفتاح، كانت أماني فرحة تصبر نفسها وهي تحاول تبريد لهفة إياد لاحتضانه: يلا مش ضايل إلا أسابيع قليلة، وبتحضنه، لكن يا حسرة".

قبل يوم من استشهاد العائلة، أعطت أم إياد كنتها نقودًا وصلت العائلة كمساعدة اغاثية كي تشتري لجنينها ما تحتاجه، لم تسع الفرحة قلب أماني وهي تفرد لعمتها الملابس والأغراض التي أحضرتها من السوق "والله يا عمتي الله يفرح قلبك زي ما فرحتي قلبي".

تبكي حسرتها "راحت هي وأحلامها وزوجها وجنينها، أربعة أفراد انمحوا من السجل المدني ولا كأنهم كانوا عايشين".

للاحتلال يد في إعاقته

لم يخلق إياد قعيدًا، بل كان للاحتلال يد في فصول المعاناة التي ألمت به، بعد أن تعرض لإصابة على يد قوات الاحتلال قبل ستة عشر عامًا جعلته قعيدًا على كرسيٍ متحركٍ، يسكن مع عائلته في شقة بالطابق الثالث في عمارة يتشارك فيها الأعمام، لا يخرجُ إلا للضرورةِ نظرًا لصعوبةِ حمله وإنزاله وإعادته للبيت، كما كان له يد في شطبه من السجل المدني.

"بدي إياك يا ستي تاخديني معك".. يئن صوت نغم وهي تتشبث بقدمي جدتها، تعاتب الجدة نفسها "ياريتني أخدتها معي" ثم سلمت للقدر "ربنا خلاها مع أبوها وإمها عشان ما تتحسر عليهم وتترباش يتيمة وتضلها وحيدة تفقد أهلها".

"إياد؟.. لو أي حد بقلك صحيح" لم يكن استغراب الناس من استهداف الاحتلال لإياد نابعًا من فراغ، "بالكاد يستطيع جر كروسته، وخدمة نفسه" ولا زالت والدته تبحث عن إجابة لسؤالها المقهور حول سبب قصفه.

يطرق صوت أماني حديثها في سهرة عائلية قبل أيام من الاستهداف بعدما أعدت لحماتها بعض المسليات ممازحةً إياها "يلا بكرا بس أولد بتخدميني وبتعمليلي" تعطلت حركة اجابتها وأفقدتها القدرة على الرد، ارتشفت كأسًا من فنجان القهوة وسكبت عليها حزاما من ضحكة هستيرية "أه ما اللي غنى عنك، انت بس أولدي وراح نعزك".

لم يعد هناك رغبة لدى أم إياد وأبناؤها لترميم البيت رغم أنه الوحيد لهم وأن العائلة أصبحت مشردة بلا مأوى، فصور الأشلاء الممزقة لإياد ونغم وأماني تلتصق في كل ركن تناثرت فيه دماؤهم وأشلاؤهم، ستبقى تلك المشاهد تجثم على ذاكرتهم، "ما إلي نفس أشوفها بعد اليوم، مش قادرة أدخلها" قالتها بقلب مكسورٍ تجمدت الحياة فيه.

صوت إياد القادم من أعماق ذاكرتها عاد بها خمس سنوات للوراء "أتذكره عندما طلب الزواج قبل خمس سنوات وبديت مترددةً في البداية، يومها رأيته حزينًا بائسًا يعاتبني: يعني يا أمي ما بدك تزوجني، شكلك مستهترة فيي".

الأم التي تدرك مسؤولية الزواج قاطعته منبهة إياه لصعوبة الطريق كونه قعيدًا: "بتعرف الزواج مسؤولية وأنا مش دايمة الك، بتقدر عليها ؟"، تفتح روزنامة ذلك اليوم وقد انطفأت شموع الفرح "تحديت الكل وقمت بالبحث عن عروس، وعلى قدر ما رفض في البداية، إلا أن أماني وافقت عليه رغم صعوبة الوضع الذي شرحته لها في الاعتناء بإياد وما ستتحمله من مشقة لهذا العناء".

صوت صليل الحزن لا يزال يدق نواقيس الوجع في قلب والدته في وقتٍ استحضرت مراسم فرحه "كون ابني البكر أقمنا له عرسًا حضره حشدٌ غفير من الأقرباء".

فاكهة البيت

"كنا نموت على نغم نقف بجانب إياد كثيرا، نحمله على كفوف الراحة وكل مستلزماته الخاصة، انتظرنا كعائلة بفارغ الصبر قدوم عبد الفتاح، وكنت أنغاشه: الآن خلص راح نحب عبد الفتاح أكتر منك" تتساقط الحسرة من صوت شقيقه عمر كغيمة تلقي بأحزانها دفعة واحدة.

يفتقد عمر وبقية العائلة نغم، وهي اسم على مسمى، فابنة الثلاث سنوات يعطيها عمها خمس سنوات إضافية لسعة إدراكها وقدرتها على الكلام غير المتقطع، حفظت نحو مائة كلمة انجليزية، تغلب الكبار في حديثها، تعزفُ بضحكتها البريئة أنغام الفرح داخل قلوب العائلة.

تأخذ عمر ابتسامة عابرة يختبئ  الحزن خلفها لم يتعاف من صدمة أن نغم قد رحلت "أذكر أننا كنا نمثل أمامها أننا نريد دفع الكرسي المتحرك لوالدها فتحمر وتنفعل غاضبة "حرام عليكم وين بدكم تروحوا من ربنا".

يشده موقف آخر "أحد جيراننا حاول إساءة الحديث مع والدها، فاقتحمت الخلاف وهي تحدق للأعلى متحدية إياه: ليش بتكلم بابا هيك، انت مش عارف وضعه وأنه قاعد على كروسة"، مسح دموعًا عبرت مجرى الكلام كسدٍ حبسه عن المواصلة ما لبث أن تمالك نفسه معلقا "ذلك الرجل حينما علم باستشهادها بكى بكاءً حارًا".

حلمت نغم أن تكون طبيبة "كي تصنع دواءً تجعل والدها يتحرك" هكذا كان ينمو الحلم بداخلها وترعرع، أما والدها فكان يحلم أن يركب عربة كهربائية بدلا من الكروسة التي سئم في جرها بيديه منذ سنوات طويلة، تمنى أن يمتلك مبلغا من المال ليبني غرفة له أسفل منزل عائلته ويريح أخوته من عناء حمله ذهابا وإيابا.

 أماني التي تكبر زوجها بثلاث سنوات كانت تزف فرحتها وتقرع مراسم السعادة منتظرة قدوم عبد الفتاح على أحر من الجمر، حمته ثمانية شهور واكتمل وأصبح على بعد أسابيع قليلة على إبصار الحياة، لكن الاحتلال جهز لهم نعشا واحدة، وذيل توقيعه بصاروخ أرسله لشقة إياد وهم يتناولون طعام الغداء على شطبهم من السجل المدني.

لم يحلم إياد إلا بأبسط حقوق الإنسان وهو "الحياة" لكن حتى هذا الحلم على بساطته لأي إنسان كان كثيرا عليهم في نظر الاحتلال الذي أرسل لهم طائرتهم وخطفت أرواحهم "فبأي ذنب قتل إياد وعائلته؟"

المصدر / فلسطين أون لاين