جاء فيما ذكر عن أحد الحكماء: "القائد هو الذي يجعل الآخرين يثقون به، أما القائد الممـيز فهو الذي يجعل الآخرين يثقون بأنفسهم".
القيادة هي القدرة على ترجمة الرؤية إلى واقع ملموس، فالقادة هم أولئك الذين يسعون لإلهام الناس والتأثير فيهم من خلال رؤاهم الخاصة وسمات شخصيتهم الكاريزمية، وبالتالي فإن القائد المُلهِم هو القادر على استخدام رؤيته في تحفيز مرؤوسيه لتحقيق الأهداف المرجوة، فالقائد باختصار هو ذلك الشخص الذي يتمتع برؤية ثاقبة، وهو القادر على التفكير الإستراتيجي وتوليد أفكار خارج الصندوق، وهو من لديه القدرة على التأثير في من حوله من خلال شخصيته دون الحاجة إلى سلطة خارجية، وهو من يمتلك الجرأة اللازمة لاتخاذ القرارات المصيرية لأنه يؤمن بما يعمل ويعمل ما يؤمن به، هو مخطِّط إستراتيجي بارع، فهو كلاعب الشطرنج يخطط بهدوء وبتفكير عميق قبل البدء في التنفيذ، فيحدد رؤيته المستقبلية للمؤسسة، وكيفية العمل على تحقيقها، ينظر دائمًا نحو المستقبل، ويصمم الإستراتيجيات اللازمة والتي توصله إلى تحقيق رؤيته في نهاية المطاف.
لم يشهد التاريخ قائدًا إستراتيجيًّا كالنبي صلى الله عليه وسلم، ويتجلى ذلك في مواقف كثيرة من سيرته العطرة، فإذا ما نظرنا إلى الممارسة السياسية التي اتبعها صلى الله عليه وسلم نجد أنها ليست ردود فعل فقط، أو خطوات جزئية، بل هي رؤية إستراتيجية محدَّدة ودقيقة، تميز ما بين الصديق والعدو، والشقيق والحليف، وتحديد المواصفات الدقيقة لهذا كله، كما تشمَل مراحل كُبرى مُتتابعة، تَصل بِنا إلى الهدف الإستراتيجي النهائي، الذي يُحدَّد مِن البداية بدقة، و من ذلك سعيه لإيجاد ملاذ يرتكز عليه ليتحرك لنشر الإسلام، ووجد المدينة، وذهب إليها.
واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم صناعة نماذج عديدة من القادة العظام؛ لا سيما من أولئك الصحابة الذي رافقوه منذ نعومة أظفارهم، حيث وفَّرت صحبة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء البيئة التي سمحت بصقل شخصياتهم وتهذيبها ووجهتهم نحو عظائم الأمور.
كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائدًا إستراتيجيًّا حيث إنه بعد فتح الشام بادر إلى فتح مصر، لترسيخ الحكم ونشر الإسلام في شمال إفريقيا عن طريق الجزء الأهم منها، وبالفعل تحقق له ذلك وكان سببًا في بقاء الإسلام في إفريقيا والشام رغم تعرضها لمد الاستعمار بعد ذلك بقرون طويلة، وقبل ذلك تعرضها لدويلات وحكام متعاقبين.
كما يعد الشيخ أحمد ياسين نموذجًا مميزًا للقائد الفذ والملهم، الذي لم ينجح فقط في تشكيل وقيادة حركة مقاومة باتت المركب الأبرز في حركة التحرر الوطني الفلسطيني؛ بل تمكن رغم قصور قدراته الجسدية، في إرساء دعائم بيئة أوجدت نماذج قيادية ذات قدرات سياسية وكفاءات عسكرية أثبت براعتها في المجال الحربي في شقيه التخطيطي والعملياتي بما مكَّنها بقدرات محدودة من مقارعة الجيش الذي يوصف بأنه الذي لا يقهر.
إن إرث الياسين القيادي الملهم كان رافدًا لإنجازات أولئك الذين ساروا على دربه واقتفوا أثره، رغم موته البيولوجي، وأصبحت مدرسته القيادية مَعْلَمًا عابرًا للتاريخ ومتجاوزًا لحدود الجغرافيا؛ مما جعله في مصاف ثلة قليلة الذين تركوا بصمات كبيرة ودامغة في صيرورة هذه الأمة.
وأخيرًا يمكننا القول إن القائد الإستراتيجي هو ذلك القائد الذي لا يكتفي بدوره كقائد إستراتيجي ولكن يبحث فيمن حوله لمنحهم الفرصة ليكونوا قادة إستراتيجيين، وهذا بحاجة إلى امتلاكه رؤية واضحة لقدرات وإمكانيات الآخرين ممن حوله، فالقيادة الإستراتيجية الجيدة هي القادرة على توفير خارطة طريق شاملة للمؤسسة وتستطيع تحقيق التكامل بين مختلف مكونات المؤسسة للوصول إلى تحقيق الغايات والأهداف.