خامسًا: أبرز المعالم والمزايا: يمكن أن نختصر أبرز معالم ومزايا الوثيقة فيما يلي:
1- اللغة السياسية والقانونية المحترفة والمعاصرة، التي تخاطب الأنظمة والمجتمعات العربية والدولية باللغة التي يفهمونها.
2- الصلابة والوضوح فيما يتعلق بالثوابت، وتأكيدها عليها في مواضع عديدة بشكل لا يحتمل اللبس.
3- اللغة السياسية المرنة المنفتحة على الواقع، والتي تؤكد على المشترك مع الآخرين دونما إخلال بالثوابت.
4- الروح الإسلامية الوسطية المتسامحة المعتدلة، البعيدة عن الغلو والتطرف والتعصب؛ والتي تؤكد على القيم الإنسانية المشتركة في الحرية والعدالة ورفض الظلم والعدوان.
5- الشمول: حيث غطت الوثيقة كافة الخطوط الأساسية بشكل متوازن في 11 عنوانًا، شملت تعريفها لنفسها، ولأرض فلسطين وشعبها، ولرؤيتها الإسلامية لفلسطين، وللقدس، وغطت موضوع اللاجئين وحق العودة، والمشروع الصهيوني، والموقف من الاحتلال ومن التسوية السياسية، وحددت رؤيتها للمقاومة ومشروع التحرير وللنظام السياسي الفلسطيني، كما تحدثت عن الأبعاد العربية والإسلامية والدولية والإنسانية.
سادسًا: قبول حماس بدولة فلسطينية: لعل البند 20 الذي يشير جزء منه إلى إمكانية القبول بدولة فلسطينية على خطوط 4 يونيو/حزيران 1967 هو أكثر الجوانب التي أثارت النقاش وشغلت الرأي العام، وكأنه مبادرة جديدة أو تنازل من حماس؛ بل إن قيادات فتحاوية ادعت أن "حماس احتاجت 30 سنة لتخرج علينا بذات مواقفنا"؛ وهو الموقف الذي أخذته فتح والفصائل الفلسطينية في المجلس الوطني الـ19 سنة 1988. والحقيقة أن هذا الاجتزاء والتبسيط غير صحيح، لما يلي:
1- يأتي نص الدولة في سياق نص حاسم يرفض التنازل عن أي جزء من فلسطين مهما كانت الأسباب. والنص نثبته هنا لمن لم يطلع عليه: "لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديلٍ عن تحرير فلسطين تحريرًا كاملًا، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك -وبما لا يعني إطلاقًا الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية- فإن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة".
2- هذا النص مرتبط بقضية جوهرية كانت ولا تزال مثار النقاش في الساحة الفلسطينية طوال السنوات العشر الماضية، وكانت حماس مطالبة بالإجابة عنها في كل حواراتها مع فتح والقوى الفلسطينية لبناء قاعدة التقاء وتقاطع مشترك، لتجاوز الانقسام الفلسطيني والعمل المشترك في الأطر الفلسطينية كمنظمة التحرير والسلطة.
كما أن أطرافًا عربية وإسلامية ودولية كانت تريد معرفة موقف حماس من هذه القضية، فضلا عن كوادر ومؤيدي حماس الذين كانوا يريدون إجابة لا لبس فيها. ولأن حماس فصيل أساسي فاعل لا يمكن صناعة قرار فلسطيني حقيقي دون مشاركته؛ كان لا بد من وضع النقاط على الحروف في هذه المسألة.
فقد ثبّتت حماس هنا حرصها على الشراكة والتوافق وإنهاء الانقسام، وأنها ليست عقبة في طريق إنشاء دولة فلسطينية كاملة السيادة على خطوط الرابع من يونيو/حزيران؛ غير أن هذه الصيغة لا تملي على حماس أي التزامات تجاه العدو كالاعتراف بـ(إسرائيل) أو التنازل عن أي جزء من فلسطين، وهي النصوص الحاكمة التي سبقت النص على موضوع الدولة.
3- ليس صحيحًا على الإطلاق أن ما وافقت عليه حماس هو البرنامج نفسه الذي وافقت عليه فتح والفصائل سنة 1988. ففي ذلك المجلس وافقت فتح وفصائل المنظمة على فكرة التنازل عن فلسطين المحتلة سنة 1948 (أي 77% من أرض فلسطين)، واستعدت لمسار تسوية سلمية يعترف بـ"إسرائيل" ويوقف المقاومة المسلحة، كما اعترفت بقرار مجلس الأمن 242 الذي يتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين.
4- حتى هذا البرنامج لم تلتزم به فتح في اتفاق أوسلو 1993 فاعترفت بـ"إسرائيل"، وتنازلت عن فلسطين المحتلة 1948، ونبذت المقاومة، مقابل حكم ذاتي في الضفة والقطاع.
وليس فيه أي التزام إسرائيلي بالانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران، ولا بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدودها، ولا بالانسحاب من القدس، ولا بعودة اللاجئين، ولا بالانسحاب من المستوطنات، ولا حتى بالسيطرة على الحدود والمياه.
ثم قامت فتح -التي تقود منظمة التحرير- سنة 1996 بإلغاء كل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تتعارض مع التزاماتها تجاه العدو الإسرائيلي.
5- لو قبلت حماس بما قبلت به فتح من تنازلات لفُتحت لها كل الأبواب بعد فوزها في انتخابات 2006، ولكانت الآن في قيادة المنظمة، وفي قيادة السلطة بالضفة الغربية وقطاع غزة، ولما تعرضت لشروط الرباعية، ولما تعرضت للحصار الخانق في قطاع غزة، ولما خاضت ثلاث حروب كبيرة مع الكيان الإسرائيلي في السنوات العشر الماضية، ولما تعرضت قواها المقاومة وكوادرها للمطاردة والملاحقة في الضفة الغربية، ولانفتحت أمامها البيئة العربية المحسوبة على ما يُسمى "محور الاعتدال"، ولانفتحت أمامها البيئة الدولية التي لا تزال تصنفها حركة إرهابية.
6- فكرة القبول بدولة فلسطين الكاملة السيادة على خطوط 1967 مقابل هدنة هي فكرة طرحتها قيادات حماس منذ أكثر من 25 سنة، ولا جديد في نص الوثيقة. مع الإشارة إلى أن الوثيقة أشارت إلى "خطوط" وليس إلى "حدود" 1967، مما يعني أنها خطوط هدنة وليست حدودًا دائمة.
سابعًا: العلاقة بالإخوان المسلمين: لم تشر الوثيقة إلى انتماء حماس إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهذا صحيح. لكن ذلك لم يَعنِ انفصالًا عن جماعة الإخوان أو تبرؤًا منها. فهذا مما سكتت عنه الوثيقة، كما سكتت عن نقاط أخرى مثل تحديد ما إن كانت الوثيقة تحل مكان ميثاق 1988 أو تلغيه.
وهذا السكوت لا ينفي صلة حماس بالإخوان، وحماس أكدت أنها ما زالت تنتمي إلى نفس الفكر والمدرسة والمنهج، غير أن شكل العلاقة -على ما يبدو- أقرب إلى التعاون والتنسيق منه إلى التبعية التنظيمية المباشرة، وهو ما لم ترغب حماس في الانشغال بشروحه والجدل حوله.
أما الخشية من التضييق عليها بسبب الصلة بالإخوان؛ فإن حماس لديها من أسباب التضييق عليها ما هو أكبر؛ إذ إنها أقوى عمل مسلح مقاوم ضدّ المشروع الصهيوني، وهي مصنفة إرهابية لدى الغرب، الذي لا تصنف معظم دوله الإخوان جماعة إرهابية.
وأخيرًا، لا يمكن لهذا المقال أن يناقش كل النقاط التي أثيرت حول الوثيقة، كما أن الوثيقة نفسها -كأي جهد بشري- عرضة للقصور والنقص والخطأ؛ غير أن ما هو مهم هو أن حماس حافظت على الهوية والثوابت والبوصلة، والتوازن والاعتدال والانفتاح، في بيئة قلقة وأجواء عاصفة.
الجزيرة نت
--