قائمة الموقع

ناجون من تحت "الأنقاض" يروون لحظات تحبس "الأنفاس"

2021-06-28T15:08:00+03:00
فلسطين أون لاين

"انتبه؛ ارفع سقف المنزل بهدوء"، "سأتفحص .. هل يوجد أحد يسمعني؟، "لا؛ لا يوجد، انتظر ألمح يد طفلة تحت الردم" أصوات طاقم الدفاع المدني متسارعة، يأمر ضابط الفريق سائق الجرافة بالتوقف "مهلا مهلا ..أمامي طفلة" يكبر ما تبقى من عائلة الكولك حولها يتعلقون بقشة أمل "يارب، يارب تطلع عايشة".

"عايشة ولا مستشهدة؟".. بقلب هش ينهشه الخوف والقلق يساوره من كل اتجاه وجانب، يسأل أحد أقارب الطفلة ضباط الدفاع المدني، الذي حاول التلصص على أي نفس أو نبض من الطفلة التي جرى للتو انتشالها،  أومأ برأسه "للأسف، شهيدة".

تعالت تنهيدات الجيران "حسبنا الله ونعم الوكيل".

عادت الأصوات .."انتبه، أنزل رأسك من الحفرة" ينادي ضابط الدفاع المدني "هل يوجد أحد بالأسفل" "لا" الإجابة كانت من فوق بعدما كرر النداء عدة مرات دون جدوى، "أرى سيدة وطفل" يلفت أحد أفراد الدفاع انتباه الضابط.

 على الفور تجمع الجميع حوله، هذه المرة تعلقت العائلة بخيط أمل حمل الضابط طفلة لا تتجاوز ثماني سنوات تكسوها الرمال والردم التي احتجزتها طوال ساعات طويلة، حملها بسكون الملائكة وهدوء المسنين ارتخت يديها وقدميها للأسفل بلا حركة، مضرجةً بدمائها، يتسابق الصحفيون على التقاط الصورة "رجل اسعاف يحمل ينتشل طفلة من بين الركام" سيكون هذا عنوان خبر عاجل أظهره الشريط الأحمر على شاشة التلفاز.

سيدة أخرى من عائلة الكولك ظهرت أطرافها بعد دقائق أخرى توضع على حمالة طبية لينقلها المسعفون جثة بلا روح، سجل ضابط الدفاع المدني الرقم (15) هذا الرقم لعدد شهداء عائلة الكولك وحدها في مجزرة نفذها الاحتلال بحق المدنيين بقصف منازلهم في شارع الوحدة بمدينة غزة راح ضحيتها 36 شهيدًا جلهم من الأطفال والنساء وكبار سن وهم نائمون.

 

زلزال صنعته الطائرات

على امتداد بصرك أحالت الطائرات عدة بيت إلى كومة من الركام، انهارت البيوت على رؤوس ساكنيها، لاحقتهم الطائرات في أكثر الأماكن أمنًا في بيوتهم، التي احتموا بداخلها من القصف المتواصل على القطاع، بلا سابق انذار أطلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية عشرات الصواريخ، لم ترحم شيخا ولا طفلة ولا امرأة كانوا نائمين آمنين.

على مسافة نحو مائتي متر لا ترى سوى بيوتًا مدمرة تصعد جرافات وفرق انقاذ من الدفاع المدني تواصل العمل منذ الواحدة فجر الأحد (16 مايو/ آيار 2021) في أعلى كومتها تحاول النبش وإزالة الردم، فقد أخرجت هذه الطواقم عشرات الأحياء الذين انهالت عليهم البيوت، كما أخرجت الشهداء.

دمار كبير خلفته الطائرات الإسرائيلية، وكأنَّ زلزالاً ضربَ المنطقة، حفر كثير تملأ الشوارع والطرقات ففي كل واحدةٍ منها سقط صاروخ لمنع طواقم الإسعافات من الوصول وإسعاف المصابين ونقلهم لمستشفى الشفاء الذي القريب من المكان المستهدف، ليكمل الاحتلال جريمته، أبنية مائلة وأخرى منهارة.

ناجية من تحت الركام

في الطابق الثالث بمستشفى الشفاء، داخل قسم الجراحة تتمدد سناء الكولك على السرير، لا تتوقف الدموع من مفارقتها عينيها والجيران كنبع حزنٍ يستمد ماءه من جراح الفقد بعد أن فقدت خمسة من أفراد أسرتها في مجزرة  شارع الوحدة، يحاول ما بقي من أبنائها تضميد جراح قلبها التي لن تلتئم، فيما يحاول الأطباء تفقد حالتها الصحية بعدما أصابتها كسور، احتجزت هذه السيدة ست ساعات تحت الأنقاض عاشت لحظات قاسية وصعبة هي وابنها محمد لم تعرف إن كانت ستخرج حيةً أم ستموت، فأسفل منها كان الدخان ينبعث وكأنها في قبر أطبق عليها.

تعيد رسم المشهد، تمرر صوتها لجهاز التسجيل الذي وضعته على مدخل فهمها وكأنها تشد حبالها الصوتية من قعر بئر "كنا في البيت، يجلس الأولاد على أجهزة الحاسوب، جاء ابني وزوجته وطفله قصي (ستة أشهر) هربا من القصف المستمر في شقتهم بشمال غزة، وكنت نائمة قبل أن يوقظني أحد أبنائي: يما بسرعة، في قصف، كلهم نزلوا على الدرج".

عليك أن تضع قلبك بجانبك وهي تستحضر صورة المشهد من شريط الموت "تأخرت في الطابق الثالث لكي أحضر ابني محمد، ومع قساوة القصف وكأن زلزالا يضرب المنطقة مثل صوت رعد لا يتوقف، مشهد يأخذ الأبصار أبرقت الدنيا وميضًا يتبعه صوتٌ مرعب اهتزت معه جدران المنزل عدة مرات قبل أن أرى نفسي أسقط مع انهيار البيت، وأتقلب في الجو حتى أظلمت الدنيا".

نادت سناء على ابنها تمد يدها التي كانت ترتطم بحجارة تحاصرها من كل اتجاه ومكان، "يما هيني" صوته أثلج قلبها "انت عايش، فيك جروح؟".

- مش عارف اذا في جروح ولا لا، كل جسمي بوجعني..

- طيب انتبه على حالك

- يما بدي اتصل على الدفاع المدني

- اتصل.

وكأن الأم وابنها اطبق عليهم قبر، اتصل محمد بفرق الدفاع المدني التي كانت فوق الردم، لكن الوصول للطابق الثالث كان عملية صعبة، فهذا الترتيب والترقيم انتهى وتلاشى أمام تحول العمارة لكومة من الركام بفعل صواريخ طائرات الاحتلال الإسرائيلية "شفتش ابني ولا هو شايفني، كانت كتافنا ملزقين ببعض طوال ست ساعات، حاسة رجلي مشلولة" هكذا عاشت ست ساعات قاسية.

وصل إلى مسامع سناء وابنها صوت من الأعلى "في حد هان؟" تلقفت الصوت كأمٍ تحتضن ابنها "أه، احنا هان يا عالم، احنا عندنا متنا"، يواصل أحد أفراد فرق الإنقاذ الذي لم يسمعها المناداة عليها "في حد هان؟"، اعتقدت أنه سيذهب وأنها ستموت، تبكي، تصرخ، تنادي: "يا عالم احنا هان" قبل أن يسمعها الفريق ويخرجهم أحياءً وسط صيحات وتكبيرات الأقارب والجيران.

"جزاهم الله كل خير، طلعونا وعملولنا اسعافات أولية" بصوتها الخافت تشيد بدور الدفاع المدني.

تحاول استجماع قوها تحرر كلماتها بلهجة عامية ترافق صوتها قطرات دموع تنسابُ بسهولة على خدها "كانت العمارة كلها أربعة أدوار فوق بعض، اولادي وجوزي وسلفاتي كلهم تحت الدرج، فش الا انا ومحمد الي كنت حضناه وانا مش شايفاه تحت الردم".

" كنت ادعي بالسلامة لا أولادي" لحظات لن تنساها في حياتها.

كل العائلة التي كانت تحت الدرج وتهم للخروج من المنزل طالتها يد الصواريخ، لم تعطهم فرصة للنجاة ولا للتنفس ولا للحياة، استشهد زوجها وابنتها المهندسة ريهام التي كانت تحلم بل الحياة وكتبت على صفحتها "لم يبق فينا أعصاب"، ابنها الذي ترك شمال القطاع خوفا من الموت هو زوجته وابنه قصي الذي ظهر سنه الأول أمس واحتفلت العائلة ببروز ابتسامة جميلة منه، زوجها الذي ذهب لينزل والديه عن الدرج، كلهم رحلوا في وقت واحد.

كانت حركة تعج بالحياة لكل واحد منهم تفاصيل أخيرة كان يفعلها هربا من الصواريخ، لكن حياتهم تجمدت هنا مع أول صاروخ وثاني وثالث ألقته الطائرات الإسرائيلية عليهم ورحلوا بسقوط المبنى فوقهم وبانفجار الصاروخ.

تعدد على أصابعها من بقي ومن استشهد "الله يساهل عليه زوجي أبو سيم استشهد، وريهام، وعبد الحميد، وحفيدي قصي، وزوجة ابني" تلتف لابنتها ريم وابنها وسيم حولها بغرفة العمليات وتتساءل: " مين ضل"، قبل أن تغلبها الدموع وتبكي بحرقة تلسع قلبها "مضلش إلا أنا ومحمد وريم ووسيم ".

تسترجع في مصابها "الحمد لله على كل حال، أسأل الله أن يصبرني".

في الخارج تقف ابنتها ريم على باب غرفة الجراحة، تهمس في اذني "لا تعلي صوتك، لدينا قريبة في السرير المجاور لأمي اسمها زينب الكولك فقدت معظم أهلها، ولم تعرف ما جرى".

عمارة الكولك تتكون من ثلاثة طوابق يعيش الجد والجدة وابنتهم في الأول، وفي الثاني يعيش أبو وسيم (والد ريم) وأبنائه، وفي الثالث يعيش أعمام ريم كل واحد في شقة ولدى كل واحد فيهم نحو خمسة أبناء، ترثي حالها "أهلي كلهم استشهدوا، فقدت من عائلتي في العمارة أربعة عشر فردًا".

تفرد ذراعيها تعلي نبرة صوتها "ما جرى فاجعة، يعيش في كل البيوت المستهدفة مدنيون أنزلت الطائرات صواريخها عليها".

بوجه شاحب يشابه سواد عباءتها، تستدير نحو الغرفة التي بها زينب تخفض نبرة صوتها، معه تغير مسار حديثها أيضًا "فقدت أمها واثنين من اخوتها وشقيقتها ولم يبق لها سوى والدها وشقيقها، لم تعرف ما جرى حتى الآن، رغم تكرار سؤالها لنا عن والدها ولماذا لم يأتِ للمشفى".

تعلق ريم "والله مش عارف ايش احكيلها، مهما خبينا عليها مصير الحقيقة تبين".

في غرفة أخرى، يرقد عزيز عزت الكولك يتلقى العلاج، هو الآخر لا يعرف مصير عائلته التي قضى فيها والده وأخوته.

على أبواب غرفة أخرى، محمد جبر جار العائلة جاء ليرافق مصابين آخرين من العائلة، يحتار في وصف المشهد "المرعب": "الصواريخ نزلت علينا مثل المطر، الكل صار يصرخ، الحي نزل للشوارع، نساء، رجال، أطفال الجميع كان يركض نحو مستشفى الشفاء، ثم عدنا لنجد كارثة وكأن زلزالا ضرب المنطقة، كنا نسمع أصوات بعض المفقودين  على الهاتف، للأسف استشهدوا".

مشاهد كثيرة أمامك، في كل ركن هناك قصة وحكاية، أبو سعيد الكحلوت انتهى من عمل صعب في  الإنقاذ يحاول اخذ قسط من الراحة لكن كل ما قدمه كان بنفس راضية  مقرًا "نحن نعمل في حالة طوارئ وكل هذا لأجل خدمة شعبنا" يدخل زميل آخر على أجواء حديثنا "لا يوجد جرائم أبشع من قتل المدنيين، ما أقسى المشهد وأنت تخرج الأطفال بسن ثلاث سنوات أشلاء"، زميل ثالث لهم وقد أذهب العمل صوته لا زال هذا المشهد يرعبه "كنت أرفع سقف البيت فجأت ظهر لي عدة أفراد أنقذت منه أحياء وأخرجنا شهداء".

بخطوات سريعة يحمل أحد الجيران حقائب وأمتعة هو وبعض أفراد أسرته، يفرغ ما في قلبه من خوف بلهجة عامية "فش مكان نقعد فيه، صارت المنطقة غير آمنة".

لا زالت أجواء ما حدث في ليلة دامية ترافقه "جدران المنزل كانت تتراقص، والبيت يرتجف (..) ما جرى نكبة حقيقية، دمار بغمضة عين".

أنس وشيماء .. فرحة لم تكتمل

ارتخى جسده المتعب على حائط و تحت ظلال شجرة هاربًا من شمس الظهيرة، يسترق بعضًا من الوقت، هي الأخرى فردت جناحيها حاجبة الخيوط الصفراء عنه تظلّه تحت ظلها الوحيد هناك، بعدما أمضى ثلاث عشرة ساعة يرقب أنس اليازجي عمل فرق الدفاع المدني في البحث عن خطيبته شيماء أبو العوف، المفقودة تحت عمارة سكنية انهالت على رؤوس ساكنيها.

"بالأمس، تحدثت معها اطمئن عليها، ونحن نتحدث انقطع الاتصال، فعاودت الاتصال فأدركت وجود شيء قد حدث، تزامن مع أصوات صواريخ " ارتج مع ذلك قلب أنس اليازجي.

يضرب كفيه ببعضهما "عرسنا كان بعيد العيد، كنا بنشطب الشقة وبنسق مع بعض.. فجأة كل شيء تدمر".

"اسال الله تطلع عايشة وان كانت شهيدة اسال الله يصبرنا"، ما لبث حتى قطع صوت  قادم تجاه الردم، هذا الارتخاء اللحظي، على الفور حمل أنس نفسه وصعد مباشرة على كومة الردم، يحدق والقلق يستعر بداخل قلبه، لكن خطيبته لم تظهر.

 

تحت الأنقاض رياض شيع أنفاس أطفاله الأربعة

"أنا حبةُ القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية، وفي موتي حياةٌ ما .." (محمود درويش)

يحدثُ أن نقعد مع الموت، بعينين مغمضتين وساقٍ مثنية وقلبٌ يرتجف، "بابا، بابا" .. صوتُ أطفال يستغيث يفزعُ رياض اشكنتنا وهو محاصر من كل الاتجاهات بعد قصف طائرات الاحتلال منزله في شارع الوحدة وتجاوزت حرمت "البيوت المدنية" المحرم استهدافها وفق القانون الدولي.

 كان يعلق بين فراغ سقفين أطبقا عليه وأبقيا على  مساحة ثلاثين سنتيمترًا تغطيه الحجارة والردم وتظلم عليه الدنيا  يلتقط الهواء بعناء، وعلى بعد عشرة أمتار منه لا زال صوت استنجاد أطفاله به يخترقُ قلبه ويهشمه "بابا؛ بابا" صوتٌ يصاحبه خوف، وتوتر، وتشبث بحبال الحياة حتى الرمق الأخير، لكن الأب هو الآخر مغطى بالرمال.

 يمني النفس لو باستطاعته حفر هذه الكومة من الحجارة واحتضان يد زوجته عبير لـ "صارت يده أكثر دفئًا" ولـ "تبلل قلبه بالرضا" إن  مات على هذه الحالة، وفي نفس الوقت يعاند الموت متضرعًا إلى السماء "يا الله .. يا الله" نداءٌ تكرر كثيرًا لعل وعسى أن يتلقفه أحدهم في الأعلى.

تمر الدقائق وكأنها جبال لا تتحرك؛ انقطع صوت "لانا ودانا"، والدهن هذه المرة بادر بالمناداة بعد أن ذكر أسمائهن: "سامعاتني .. أنا بابا رياض"، ثم نادى على كل طفلةٍ باسمها "لانا .. حبيبتي وينك"، كرر النداء بصوتٍ يعتصرُ بكل أنواع القلق، لكنها لم ترد فنادى على "دانا" فارتد إليه صوته الذي ابتلعه الردم.

لا يرى رياض إلا سواد حالك، يبحث عن زوجته بشفتيه الراجفتين وصوتٌ بالكاد يستطيع المناداة فيه، استجمع قوة أحباله الصوتية "عبير سمعاني؟"، في لحظةٍ كأنت أفكاره تخالجه وتتسلل من قلبه إلى قلبها الذي لا يعرف إن كانت نبضاته قد توقفت عن الخفقان أم لا زالت تتنفس مختنقة مثله: "لماذا لم يصمد الطريق الذي اخترناه سويًا؛ أم أن صواريخ الطائرات كانت أكبر من أنصدم أمامها، فانتزعت أرواحنا منا".

اثنتا عشرة ساعة مرت، ورياض يعيش بين الركام والردم وكأنَّ قبرًا أطبقَ عليه، أسفل منه كانت سوزي ابنة الست سنوات تعيش تحت واقع لا يقل ظلمة عنه تحتجزها الحجارة نحو ثلاث طبقات اسمنتية.

شارة نصر

من الأعلى أصوات فريق الدفاع المدني تخوض سباقًا مع الزمن، أحدهم يمسكُ مقصًا كبيرًا لفصل الحديد عن الحجارة، وآخر يحاول اختراق الاسمنت بالطرق عليه ساعات طويلة محاولا احداث بقعة دائرية.

"يلا، عندي خلص" يصاحبه أصوات طرقات متواصلة، ينادي أحد الطاقم على المتجمهرين من الجيران على كومة الردم "ارجعوا يا شباب بدنا نشوف شغلنا"، يلهج الناس إلى الله "يا رب، تنجيهم، فيما يشغل أحد أفراد فريق الانقاذ المصباح داخل الثقب الذي صنعه ليصرخ بصوت ولهفة  "هيني شفته ايده".

 "بينت؟" يسأله الضابط فيجب بسرعة وهو يواصل العمل "أه بينت" ثم يشحذ همم زملائه "يلا شباب؛ شدوا حيلكم".

ينادي عليه شقيقه رائد بصوتٍ يتقاذف الفرح منه:
- وين علامة النصر يا رياض؟

على الأقل يحاول أن يتعلق بقشة فرحٍ، بأن يخرج أفراد العائلة كلهم سالمين.

رائد الذي ترك منطقة الزيتون وجاء لمنطقة شارع الوحدة بحي الرمال؛ لأنها "أكثر المناطق أمنًا" هكذا كان يظن، قبل أن تلقي طائرات الاحتلال الإسرائيلي ما في بطنها من قذائف وصواريخ على العمارة التي يسكن بها شقيقه وعدة عائلات أخرى من عائلة الإفرنجي، وأبو العوف، وعمارات مجاورة لعائلات الكولك، في مجزرة فجر الأحد (16 مايو/ آيار 2021)، وكأنَّ زلزالاً ضربَ المنطقة بأعلى مقاييس الحقد.

على امتداد بصرك أحالت الطائرات البيوت إلى كومة من الركام، دمرت البيوت على رؤوس ساكنيها، لاحقتهم الطائرات في أكثر الأماكن أمنًا في بيوتهم، التي احتموا بداخلها من القصف المتواصل على القطاع لم ترحم شيخا ولا طفلة ولا امرأة كانوا نائمين آمنين.

"انتبه؛ ارفع الحجارة بهدوء"، "هل يتنفس؟، "انتظر لأقترب منه" أصوات طاقم الدفاع المدني متسارعة، "مهلا مهلا ..حالته جيدة، يتنفس" يكبر أفراد العائلة والجيران.

على مقدارِ الوجع الذي خرج به رياض، ومقدار اثنتي عشرة ساعة أمضاها بين الركام، ولن ينسى تفاصيلها، ما أن أزيل الركام عنه حتى رفع شارة النصر وهو محمولاً نحو سيارة الإسعاف.

قبل أن يفيق على وقع صدمة لم يرَ أحد من أولاده:

- وين أولادي ومرتي .. ايش صار فيهم؟.

يجيبه أحدهم "كلهم بخير، تقلقش" لكنه لم يقلُ الحقيقة.

هي مواقيت الوداع التي تتركُ غصةً في حلق مواعيد الفرح، حينما يرحلُ من نحب بغتةً في تواقيت نتكئ فيها على مائدة الفرح.

الناجون يرون لـ "فلسطين":

في المبنى التخصصي بمستشفى الشفاء بمدينة غزة (18 مايو/ أيار 2021) عاد رياض إلى سريره وهو يمسكُ يد ابنته سوزي، بعد أن التهمت صواريخ الطائرات الإسرائيلية أرواح خمسة من عائلته: زوجته عبير(29 عاما)  واطفاله الأربعة دانا (10 سنوت لانا (5 سنوات) يحيى (4 سنوات) وزين (عامان).

تسحب بصرك بقعُ دماء على الجانب الأيسر لطفلته سوزي، وانتفاخ عينيها، ليمر بصرك على الخيوط الطبية التي لم تلتئم بعد وتغرز خيوطها في محيط عين والدها  اليمنى، وخط جرح آخر يسلك طريقه في جبهته، ثم ينزل بصرك نحو يديه الملتفتين بالشاش الأبيض بعد أن بتر أصبعه وجرحت يده، لكن الجرح الذي يغرس خنجره بقلبه أكبر من ذلك.

بدأ ينظر للأعلى وكأنه يحرم دموعه من السقوط، الحزن يملأ فمه، لا زالت الصدمة تفرض نفسها على ملامح وجهه بعد أن أذن لشفتيه بالتحرك،  "حينما انهار المبنى بفعل الصواريخ وبقينا تحت الأنقاض، كنت اسمع بناتي ينادين علي، وكنت أحاول الاستغاثة بالخارج لكن لم يسمعني أحد بسرعة، فجأة انقطع الصوت".

"شعرت أن قلبي تجمد، وتجمدت الحياة".

يحرر المشهد الذي يطبق على أنفاس ذاكرته "كان المكانُ مظلمًا، لا أستطيع رؤية شيء، لكن بعدما جاء فريق الدفاع المدني وبدأوا يحفرون حتى وجدتُ الضوء، وبالمشفى علمت باستشهاد ابنتي وولدي وزوجتي وبتر أصبعي" ثم غاب بين سطور الوجع لأن الدموع حجزتْ مكانها.

تتكئ ذاكرته على اللحظة الأخيرة قبل أن تتقطع أوصال العائلة "كنا نجلس بالبيت، وطلبت منها أن تنوم الأولاد لأن الوضع مقلق فجلسوا في حضنها، وجلست في الصالون ثم قصفت العمارة".

بقربه يجلس شقيقه  رائد يسند رأسه على يده، غارقًا في تفكيره، فقد عاش آخر اللحظات مع أولاد شقيقه قبل المجزرة "ارتدى  أبناء أخي ملابس العيد مساءً وبقوا فيهم، لكن أكثر ما يدمي قلبي أن فارقتهم قبل الحدث بعشر دقائق ونزلت لشراء غرض وسمعت صوت القصف، وأكثر ما يؤلمني الحوار الذي لم يكتمل بيني وبين ابنة اخي دانا (10 سنوات).

في تفاصيل الحوار ..

دانا تعبر لعمها عن سعادتها بقدومه عندها وتطلب منه طلبا مستعجلا وفوريا "بدي صورة معك يا عمو" ولكن هذا الطلب وضعت له شرطًا "بس إن ترفع شارة النصر"، يطل الحزن من وجهه وهو يستحضر صورتها "لبيت طلبها، لكنها باغتتني بشيء وأنا أهم بالخروج من المنزل تنادي علي: عموا بدكاش تيجي معنا، فسألتها أين، فارتسمت ابتسامة عريضة على ملامحها وقالت: بس ترجع بتعرف".

"بدي اروح اشتري وارجع تحكيلي وين اروح معكم" رحلت دانا، ولم يعرف رائد أين أرادت أخذه.

لا زال لا يصدق كيف خرج شقيقه رياض حيًا، علامات  التعجب تترك بصماتها على اتساع أحداق عينيه "خروج أخي هو وابنته من تحت ردم كبير أحياء، معجزة فمن الصعب أن يحتمل أي إنسان هذا الضغط من الردم فوقه ويبقى على قيد الحياة".

بالنسبة للعائلة لم تكن سوزي في عداد الأحياء في البداية، قبل أن ينزل جارهم محمد الديري هو وأصدقائه ويساعد فرق الانقاذ في محاولة إخراجها، مشهد يحبس الأنفاس "وجدناها بين ثلاث طبقات منهارة بفعل الاستهداف المباشر للبيت".

يبعد يده اليمني عن اليسرى  باتجاه الأعلى بمسافة 30 سم فاردا كفة يده يرسم في الهواء المساحة الضيقة للمكان "كان الثقب صغيرا، فنزلنا به وزحفنا بصعوبة وكنا أربعة شباب واحد وراء الآخر (..) فوجدنا ثلاثة أسقف قد أطبق على رأسها".

ابتلع ريقه وهي يرتب الموقف، ليرويه دفعةً واحدة "زحفنا وراء بعض، ووقفنا بمسافات متباعدة، واستمرينا لمدة ساعتين نزيل الحجارة لبعضنا البعض حتى نفتح الطريق لإخراج سوزي، ووصلنا إليها وبدأنا بنقر الحجارة لفترة طويلة وذلك لإزالة 5 سم مترات كانت تمنعها من التحرك، والحمد لله جرى إخراجها".

"وين ماما؟" .. تبحث سوزي عن إجابة لهذا السؤال، عن ملامح أمها، ووجوه اخوتها بكل الموجودين والزائرين إليها بمستشفى الشفاء، تستغرب أسباب وجود وجوه لم تعرفهم، تنتظر تلك الملامح التي تألفها، وعلى براءتها تصلها إجابة مرضية نوعًا ما في هذه المرحلة العملية: "امك اخدت اخوك زين سافرت عشان تعالجه"، رواية اقنعتها مؤقتا لكن حتمًا ستفيق سوزي على الحقيقة في يومٍ من الأيام بأن كل عائلتها قضوا في مجزرة بشعة، أزهقت أرواح نحو 40 مواطنًا أمنا في بيوتهم.

عائلة "الكولك" .. قائمة تجمع 22 شهيدًا من الجد إلى ابن الحفيد

"وإن أخذني الموت يومًا، ولم نلتقِ فلا تنسي أني قد تمنيت لقائك كثيرًا" لمحبوبته التي لم يرها، وتمنى أن يعانقها يومًا ما، فقد مزقته عباءة الشوق والانتظار لهذا اللقاء،  كتب سامح الكولك أمنيته الأخيرة وكأنها وصيةً دون أن يدري، يعتذر بها للقدس إن رحل ولم تتكحل عيناه برؤيتها،  لأنَّ صواريخ الطائرات الإسرائيلية أقرب إلى روحه من تحقيق ذلك الحلم الذي خطه على الفضاء الأزرق قبل استشهاده، ليكتب نسخةً أخرى منها بدمه، ويودعُ أمنيته في حقيبة الرحيل التي حلقت مع روحه على أبواب الجنان.

كانت هناك حياة، تعج بالحياة؛ وأحلامٌ وورد وصور، يغفون غفوتهم الأخيرة على أصوات الصواريخ، رغم ذلك كانوا ينشدون للأمل ويعزفون ألحانَ السعادة، تنبضُ قلوبهم بالحب، كان لديهم عيون وضحكات، وأضواءٌ تزين جدران المنزل، في المشهد عيون تنظر للحياة، تتوهج منهم ابتسامة مشرقة تغرب على أمل أن تعود بالأمل، يدق الفرح طبوله بداخلهم، يتجمعون على مائدة الحب الأسرى.

في ذاك المساء كانت الصواريخ الإسرائيلية تضرب منازل المدنيين في قطاع غزة، بلا هوادة ولا رحمة، في عائلة الكولك إضافة للمراسم الروتينية بمتابعة ما يرد من شاشة التلفاز من أخبار عاجلة، احتمى الأطفال في أحضان امهاتهم وآبائهم فكانت هذه الأماكن الآمنة من بطش الصواريخ التي تدمر كل شيء تطاله.

في المشهد .. بعضهم كان يلهوا بألعابه، وأخرون يتوسدون فراشهم يهمون للنوم، وبعضهم غطى فيه، ريهام كتبت "أنه لم يبقى لدينا أعصاب" وقصي الطفل ابن الستة أشهر احتفى به والده وجده ببروز أول أسنانه وكانت أجمل ضحكة بما فيها من براءة لكنها كانت الأخيرة، جاء هذا الطفل مع والديه من محافظة الشمال للاحتماء في بيت جدهم، ولم يعلم ان هناك كان يحضر لهم كفنًا جماعيًا يوم الأحد (16 مايو/ أيار 2021).

لم تدم تلك الحياة طويلاً، فالطائرات الإسرائيلية جعلتهم يرون المسافة الحقيقية بينهم وبين الموت، بعدما ألقت وابلا من الصواريخ عليهم في مجزرة استشهد فيها 22 شهيدًا من عائلة الكولك بينهم 16 سيدة وطفلاً.

في شارع الوحدة وعلى امتداد بصرك أحالت الطائرات عدة بيت إلى كومة من الركام، انهارت البيوت على رؤوس ساكنيها، لاحقتهم الطائرات في أكثر الأماكن أمنًا في بيوتهم، التي احتموا بداخلها من القصف المتواصل على القطاع، بلا سابق انذار أطلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية عشرات الصواريخ، لم ترحم شيخا ولا طفلة ولا امرأة كانوا نائمين آمنين.

أسماء على قائمة

لم يبق من أفراد العائلة سوى أسماءٍ مطبوعة على لوحة معلقة على حائط بجانب منازلهم المدمرة، تجمع القائمة اسم الحاج أمين محمد الكولك (86 عامًا) والد وجد الشهداء وكذلك ابن حفيده الطفل قصي (ستة شهور).

بملامح شاحبة وابتسامة يختبئ فيها الحزن وراء قفصه الصدري وعينين ذابلتين، كنجمة انطفأ وهجها بلا بريق يتأمل عدلي الكولك أسماءَ عائلة ينظر إلى قافلة وكوكبة من الشهداء، "لا يمكن تخيل أنهم رحلوا" .. يرفع رقبته ويجول نظره بين الأسماء، بينما يتأرجح القهر بين نبرة صوته تنفجر مشاعره كبركان يقذف حممه الغاصبة يفرد كفيه للخارج "ما حدث إبادة للعائلة، اختفت معها طعم الحياة".

يحدق بأسماء الراحلين يعلو نظره ويتقابل إصبع إبهامه مع اسم جد العائلة: "هذا الحاج أمين محمد الكولك، هو عمي وجد ووالد الشهداء، أدنى منه زوجته الشهيدة سعدية يوسف الكولك (75 عاما)، وابنتهم بهاء التي لم تتزوج كي تخدم والديهم، والابن الكبير له فواز أمين الكولك وعمره (60 عاما)، واستشهد بالمجزرة ابنه عبد الحميد فواز الكولك الذي تخرج مؤخرا من قسم الصحافة والإعلام، وكذلك ابنه سامح فواز الكولك مهندس الكترونيات وزوجته الشهيدة آيات، وابنهم قصي الرضيع.

يقلب عدلي كفيه بينما يتقلب الوجع داخل قلبه حزنًا على الطفل الذي لم يرَ الحياة "عائلة سامح محيت، جاؤوا يحتفلون ببروز أسنان أبنهم، فكانت آخر مراسم الفرح، وشيعناهم إلى الجنان".

يهبط نظره للأسفل قبالة اسم الشهيد طاهر شكري الكولك وهذا الشهيد تخرج من تخصص الهندسة المعمارية قبل أربعة أشهر وارتدى قبعة التخرج، وكان لديه أحلام بالانخراط في سوق العمل، وشقيقه طاهر وهو طالب في الثانوية العامة كان على أعتاب المستقبل، وشقيقتهم الطفلة هناء الطالبة بالإعدادية

يقترب عدلي نحو اسم شقيقيه الشهيدين عزت معين الكولك والذي درس محاماه لكنه يعمل معه في ورشة لصيانة المحركات وزوجته دعاء وفقد بالمجزرة طفليه زيد وآدم، وشقيقه الشهيد محمد والذي فقد ثلاث طفلات وهن حلا، ويارا، ورولا".

"ربنا يرحمهم لا يمكنني استمرار النظر في أسمائهم" ..أغمض عينيه وأخذ نفسًا عميقًا لا يصدق أن العائلة رحلت، وأذن لشفتيه بالمواصلة: "لقد زارنا شقيقاي في تلك الليلة وكانا صائمين، بلهفة كان ينتظر أطفالهم انتهاء الحرب لارتداء ملابس العيد".

يستدير نحو البيت المدمر "الملابس تمزقت مع اشلائهم، فلا عيد ولا فرحة " كلمات تنسكب من فمه في كأسِ المرارة.

يضرب كفيه، قسماته وجهه تعج بالمأساة احتارت أبجديته في انتقاء الكلمات "لا يمكنني تخيل أن شقيقي رحلا هم وأبناؤهم وزوجاتهم، مجرد التفكير بذلك يصيبني بالقهر ".

يتحرك في عينيه مشهد التشيع، ينتفض الألم بين ثنايا صوته "مشهد هزني.. حينما كنا نخرج جثث الشهداء للمشفى لم أكن أعي صعوبة الفقد ومرارته وحجمه، لكن حينما ترى من تحب مسجى أمامك، ليس واحدًا بل ينفرد أمام ناظرين اثنان وعشرون جثة هامدةً بلا روح، جعل نبضات قلبي وكأنها توقفت، لم استطع حبس دموعي ولا حتى النطق أمام قسوة الرحيل، كنت أشيع قافلة من الشهداء من عائلي".

لن ينسى عدلي وأفراد أسرته، مراسم الجنازة وهم يزفون إلى السماء شهداء العائلة، ويلقون نظرة الوداع على الأخيرة عليهم، يغسلونهم بدموعهم.

هؤلاء الأطفال (يشير نحو أطفال شقيقيه) "ما هو حلمهم؟" .. فاردًا ذراعيه يرسم حاجباه علامة قهر أخرى أما صوته فيتجمع فيه كذلك "ايش حلمه الطفل انه يحيى حياة كريمة فش فيها نزاع، فش فيها حرب، فش فيها دمار وصواريخ".

في عينيه هناك بصمات للوجع، يعيش تفاصيل لحظات لم يتوقع أن يعيشها في حياته "حينما بدأت الصواريخ تتوالى على الثلاث عمارات المجاورة لبيتي، خرجنا ورأيت الدمار ودخان يصعد للسماء ونيران تحترق، كنا نسمع صوت الأولاد الصغار والنساء تصرخ: "طلعونا .. الحقونا"، هذا الصوت لا أستطيع نسيانه يئن بداخلي، في تلك اللحظة لم نستطع رفع الأسقف بأيدينا، ومرت دقائق حتى جاءت سيارات الدفاع المدني، واستشهد بعضهم ونجى آخرون".

يقف عدلي هذه المرة على كومة الدمار التي لا زالت شاهدة على آثار المجزرة، يتوقف عند ركام صرخ منه عبد الحميد، لكنه استشهد بسبب كثافة الردم فوقه، يتحرك قبالة ردم آخر، توقفت أحباله الصوتية كقطار تعطلت سكته.

تنصت لتنهيدات الألم والحسرة وكومة مشاعر حزينة تملأ قلب عدلي الصلب ظاهرًا والمهشم من الداخل وكأن زلزلا ضربه وهدم أعمدة التماسك فيه، ترى هشاشة قلبه ككومة الحجارة المتناثرة أمامه، يجثم على هذا المكان مشهدٌ قاسٍ يلتصق بجدار ذاكرته، مسح وجهه بيديه بعد أن قرأ السلام على أرواح شقيقه وأبنائه.

أطلق تنهيدة صامتة؛ وحرك بعدها صوته "هنا استشهد أخي عزت وزوجته وطفلاه زيد وآدم، ولم يبق من أبنائي أخي سوى طفله عزيز (11 عاما)، بقي خمس ساعات تحت الردم وهو يستغيث وينادي".

حينما أزالت طواقم الدفاع المدني الركام عن العائلة، وجدت عزيز محتميا في حضن والده، رحل الأب وبقي الطفل الوحيد حيًا، نجى عزيز من الموت، بينما شيعت عائلته تركته دون استئذان، سيعيش هذا الطفل ويتذكر تلك اللحظة، سيمر شريطها آلاف المرات عليه، سيتذكر اللحظة الفاصلة بين الموت والحياة، لحظة خطفت فيها روح والده وأمه وشقيقه وبقي هو وحيدًا يتجرع مرارة "اليتم".

يبعد كفه اليمنى عن اليسرى نحو الأعلى ويترك بينهما فراغ يدخل به رأسه، يحتار في وصف المجزرة "لك أن تتخيل أن عمي الحاج أمين استشهد وفي نفس القائمة يوجد قصي ابن حفيده، تخيل حجم الأجيال التي محيت هنا".

يعلق بقهر "هذا مسح للعائلة وإبادة جماعيا".

يستدير نحو الدمار، يلسع صوته المشهد "يمكن اعمار الدمار، لكن فقدان الأهل والأحباب لا يعوض".

 

 

 

 

 

 

 

لم يعد للصباح رائحة بلا شقيقيه، فعدلي الذي تربطه – إضافة لرابط الدم – بأخويه محمد وعزت، فهما شريكاه في الورشة، يرى الحياة بسعادتهم، لا يتخيل أنه ستمر الصباحات بعد اليوم ولم ير إشراقة وجههما، مجرد التفكير بذلك يصيبه يعطل تفكيره،  "كلما رأيت الركام يفيض القهر من قلبي".

ناجية من تحت الركام

"كنا في البيت، يجلس الأولاد على أجهزة الحاسوب، جاء ابني وزوجته وطفله قصي (ستة أشهر) هربا من القصف المستمر في شقتهم بشمال غزة، وكنت نائمة قبل أن يوقظني أحد أبنائي: يما بسرعة، في قصف، كلهم نزلوا على الدرج".. لا تتوقف الدموع من مفارقة عيني سناء الكولك كنبع حزنٍ يستمد ماءه من جراح الفقد بعد أن رحل خمسة من أفراد أسرتها في مجزرة  شارع الوحدة.

تستحضر صورة المشهد من شريط الموت "تأخرت في الطابق الثالث لكي أحضر ابني محمد، ومع قساوة القصف وكأن زلزالا يضرب المنطقة مثل صوت رعد لا يتوقف، مشهد يأخذ الأبصار أبرقت الدنيا وميضًا يتبعه صوتٌ مرعب اهتزت معه جدران المنزل عدة مرات قبل أن أرى نفسي أسقط مع انهيار البيت، وأتقلب في الجو حتى أظلمت الدنيا".

"شفتش ابني ولا هو شايفني، كانت كتافنا ملزقين ببعض طوال ست ساعات، حاسة رجلي مشلولة" هكذا عاشت ست ساعات قاسية.

وصل إلى مسامع سناء وابنها صوت من الأعلى "في حد هان؟" تلقفت الصوت كأمٍ تحتضن ابنها "أه، احنا هان يا عالم، احنا عندنا متنا"، يواصل أحد أفراد فرق الإنقاذ الذي لم يسمعها المناداة عليها "في حد هان؟"، اعتقدت أنه سيذهب وأنها ستموت، تبكي، تصرخ، تنادي: "يا عالم احنا هان" قبل أن يسمعها الفريق ويخرجهم أحياءً وسط صيحات وتكبيرات الأقارب والجيران.

كل العائلة التي كانت تحت الدرج وتهم للخروج من المنزل طالتها يد الصواريخ، لم تعطهم فرصة للنجاة ولا للتنفس ولا للحياة، لكل واحد منهم تفاصيل أخيرة كان يفعلها هربا من الصواريخ، لكن حياتهم تجمدت هنا مع أول صاروخ وثاني وثالث ألقته الطائرات الإسرائيلية عليهم ورحلوا بسقوط المبنى فوقهم وبانفجار الصاروخ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اخبار ذات صلة