تلفظت أنفاسها بشهيق طويل، لحقه زفير متقطع بعد إعلان التهدئة بين طرفي المعركة، فقد وضعت الحرب أوزارها، وسيعود قلب "يسرى" إلى قواعده بعد أن اهتز خوفًا على رفيق دربها طيلة الأحد عشر يومًا، "أحمد" الذي يحتل جميع حجرات قلبها قد غاب أوقاتًا طويلة في المدة الماضية وستعود حياتها إلى هدوئها واستقرارها، لكن هذا الهدوء كان حذرًا.
"الأسبوع الذي تلا انتهاء الحرب كان مميزًا، فقد نجح أحمد في أن يترك أثرًا كبيرًا في قلبي قبل تركه في العديد من الأماكن، لقد كان أشبه بأسبوع عسل، فرغ نفسه لي ولطفليه حمزة ومحمد، رغم أني منذ اليوم الأول الذي جمعنا به تحت سقف واحد، حملت الحمل معه، وأعذرت أي تقصير قد يصدر عنه لانشغاله"، هكذا بدأت يسرى دبابش زوجة الشهيد أحمد أبو حصيرة، بعيون باهتة وبصوت بدا لمراسلة صحيفة "فلسطين" مخنوقًا وكأن صخرة تجثو على صدرها.
تصمت قليلًا لتتنهد من قلبها، وتضيف: "في ذلك الأسبوع تعالى كثيرًا على تعبه، فكل يوم يطلب مني أن أجهز نفسي وأبناءنا ليصطحبنا في نزهة حتى لو كانت سريعة، وترك لأطفاله شراء كل ما يحلو لهم ويشتهونه"، وفي يوم تركا أطفالهما في البيت وخرجا منفردين يعيدان ذكريات البداية عندما تشابكت الأيدي لأول مرة، ولكن أبت هذه الذكريات إلا أن تكون ذكريات النهاية أيضًا.
في هذا المشوار القصير رسم لها المخطط الذي ستسير عليه في تربية أبنائهما وتعليمهما، وكأنه يعلم أنه سيتركها تعيش الحياة وحدها، وتتحمل نصب أعمدة البيت بمفردها.
تحاول يسرى التي فجعت بخبر استشهاد زوجها أن تلملم ذكرياتها، وتشبيك الأحداث مع بعضها، فتسرد: "قبل ثلاثة أيام من استشهاده، تأخر أحمد عن عودته إلى البيت، فخلع حمزة قلبي خوفًا بقوله: "ماما.. بابا مات"، ورددت عليه مسرعة: "لا.. لا ما تقول هيك"، وكأنه مصمم: "بابا بده يموت" ليخيفني أكثر ويرجف قلبي، فمسكت هاتفي متصلة بأحمد، انتهى الاتصال ولم يجِب، فشعرت بانقباض قلبي، وعدت الاتصال مكررًا فأجابني مسرعًا: "10 دقايق وبكون في البيت، فهدأت".
كتلة تتحول إلى نور
أما هي فقد استيقظت فزعة من حلم، فتسرد: "حلمت بخروج كتلة من قلبي تتحول إلى نور، وكنت أتشاهد، اعتقدت أن الموت لي، فلم أحدث أحمد به خوفًا عليه، رغم أني أسرد عليه كل أحلامي لأخلق مجالًا للحديث، فسمته الكتمان وقلة الكلام، وبعد استشهاده أيقنت أن الموت لقلبي بفراقه عني".
يوم الثلاثاء الأول من يونيو/ حزيران غافلها بقدومه إلى البيت، فوجدها تجرأت على غير عادتها لتشاهد مقطع فيديو يتحدث عن حور العين، وهي التي تغلي داخليًّا غضبًا وغيرة عندما يتحدث عنهن، نظرت إليه: "نيالكم، كل هذا الأجر العظيم لكم في الجنة، وقاطعني ضاحكًا: "حتكوني ملكتهم"، وطلب مني تدليك كتفيه بعد يوم عمل متعب، وقال لي ممازحًا: "دلكيني أحسن ما يدلكوني الـ72"، فقلت: تاني يا أحمد".
وفي صبيحة اليوم التالي، تجهز للخروج إلى عمله على أن يوصلها وأبناءها إلى بيت أهلها، ويعود إليها منتصف النهار ليذهب معها لطبيب الأسنان، فرفعت عنه هذه المهمة على أن تصطحب معها شقيقتها، فخرجت ونسيت هاتفها المحمول، لتعود وتخبرها والدتها بأن أحمد رن على جوالها قبل دقائق قليلة: "مسكت هاتفي وجدت مكالمة منه في الساعة الثالثة وخمس دقائق، ليأتي خبر استشهاده بعد 5 دقائق".
حتى اليوم تعاتب نفسها على نسيانها هاتفها: "ماذا كان يود أن يقول لي في مكالمته الأخيرة؟ هل كان سيطلب مني شيئًا أم يخبرني أم...؟".
وتقول يسرى: "لأول مرة يهتم أحمد بيوم ميلاده، وإعداد احتفال عائلي، فقال لي بعد انتهاء يوم ميلاده الذي صادف أول يوم في الحرب 10/5: "هيك بيمر ميلادي دون الكيك"، لا لا مستحيل يخلص شهر 5 دون أن أعدها لك".
العمل عبادة
وفي سؤالنا عن شخصية أحمد، فأجابت يسرى بأنها يمكنها أن توجزها ببضع كلمات: "هادئ، ومتزن، وصامت، وكتوم"، قضى حياته في عمله وأولاده، وعندما كانت تطلب منه التفرغ لهم بعض الوقت يجيبها: "العمل عبادة".
كانت حريصة عليه، تودع قلبها معه في كل طلعة من البيت، ويحاول أن يوصل لها كل مرة بألَّا تتعلق به، فقد يسترد الله أمانته بأي لحظة، فهو يعرف طبيعة عمله وخطره، وتطلب منه أن يدعو الله بطول العمر وحسن العمل.
فلم يصارحها يومًا بطبيعة عمله الذي يتطلب السرية والكتمان، ولكنها في الأيام الأخيرة استشفت بمفردها رغم نكرانه، فحزن أحمد الكبير على استشهاد باسم عيسى وعلاقته القوية به: "فقالت له يعني انت اشي كبير، فرد عليها ضاحكًا: "من قال لك ذلك أنا بركب ليدات".
ولمحبة الناس به، كان والد يسرى يوصيها دائمًا بأحمد، ويقول لها: "ديري بالك عليه، أحمد ملاك بيمشي على الأرض"، فقد كان أحمد باراً بوالديه وكان يرضخ لرغبتهما، فقبل ذهابه للعمل وعند عودته من الضروريات لديه التسليم على والدته وتقبيل جبينها.