لعل ظلماً كبيراً لحق بالوثيقة السياسية التي أطلقتها حركة حماس في مطلع مايو/أيار 2017، بسبب نظرة كثير من الجهات والكتّاب والإعلاميين والسياسيين إليها عبر جملة نُزعت من سياقها في المادة 20 من هذه الوثيقة، أو من خلال محاولات التبسيط وتشويه الوعي، التي قامت بها جهات على خصومة مع حماس وفكرها؛ فقامت بقراءات مُجتزأة كمن يحاول تعريف الحصان بحوافره أو ذيله، أو تعريف الصاروخ والطائرة بأنها مجرد "قطعة حديد"!!
وحتى لا نضيع في دوامة النقاشات والتفصيلات، فإننا سنحاول -من خلال هذا المقال- تسليط الضوء على عدد من النقاط المهمة للوصول إلى فهم أفضل للوثيقة:
أولاً: لماذا الوثيقة؟! وفق القراءة الموضوعية المتخصصة، ومتابعات كاتب هذه السطور، فقد كانت ثمة ثلاثة أسباب تدفع باتجاه إعداد الوثيقة ونشرها:
أولها أن العديد من الأطر القيادية لحماس كانت لديها ملاحظات قديمة على الميثاق الذي صدر سنة 1988، وكانت تريد إدخال تعديلات عليه.
وثانيها أن حماس واجهت عشرات القضايا والمستجدات طوال السنوات الثلاثين الماضية كانت مثار نقاش في أطرها، وقدمت عليها إجابات سياسية من قياداتها في بيئات وظروف مختلفة، فأصبحت ثمة ضرورة للملمة الصورة وتوحيد الرؤية، وضبط اللغة السياسية وتحديد المعايير والأولويات خصوصاً لدى كوادرها ومؤيديها، وبالتالي فقد كانت البنية الداخلية والداعمة سبباً أساسياً لصدور الوثيقة.
وثالثها الحاجة إلى وضع النقاط على الحروف، ومواجهة آلات الدعاية والإعلام، والتعامل مع الفيض الهائل من الكتابات والتصريحات والدراسات التي أخذت "تُنظِّر" بالنيابة عن حماس فيما يتعلق بتطور فكرها السياسي ومواقفها، مستغلة حالة شبه "الفراغ" الناتج عن عدم صدور أدبيات رسمية معتمدة عن الحركة منذ صدور ميثاقها سنة 1988؛ فكان لا بدّ من وثيقة تتحدث فيها حماس عن نفسها بنفسها.
ثانياً: التوقيت: تبدو إشكالية التوقيت إشكالية مزمنة في مثل حالة حماس عندما تريد التعامل مع قضية مفصلية كميثاقها أو وثيقتها. فتطورات الشأن الفلسطيني ومتعلقاته الداخلية والعربية والإسلامية والدولية والإسرائيلية كثيرة ومتسارعة لا تهدأ ولا تتوقف، وأيُما إصدارٍ لهذه الوثيقة لا بدّ مِن أن يجد مَن يربطه بهذا الحدث أو ذاك.
ويبدو أن ذلك كان أحد أسباب التأجيل المتكرر من قبل قيادة حماس لعملية تعديل الميثاق، أو إصدار وثيقة حتى بعد أن أصبح الأمر يُطرح بشكل متزايد في أطرها الداخلية، خصوصاً بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية وتوليها قيادة الحكومة سنة 2006.
والمراجعة التاريخية لموضوع الملاحظات وإشكالية التوقيت تعيدنا إلى سنة 1988 نفسها عندما كانت ثمة ملاحظات لقيادات في الخارج على النص، غير أنها قررت المضي في تبنيه وطباعته وتوزيعه.
حيث إن بيئة الانتفاضة الأولى والتفاعل الشعبي الهائل معها، وحالة الصعود والمطاردة وصعوبة التواصل التي تعيشها حماس في الداخل، لم تكن تسمح بعمل مراجعات هادئة لعدد من النصوص لتحسينها وتعديلها؛ بالإضافة إلى أنه لم تكن قد ظهرت ملاحظات جوهرية على نص الميثاق كالتي ظهرت بعد سنوات طويلة من الممارسة.
والذي لا يعرفه كثيرون، أن القيادة التنفيذية لحماس في الداخل (الضفة والقطاع) هي التي أعدت الميثاق وأقرته، ثم اعتمد لاحقاً من قيادتهم التنفيذية في الخارج. أما مجلس الشورى الخاص بحماس فقد تشكل سنة 1991، ولم يوضع إقرار أو تعديل ميثاق حماس على جدول أعماله أو مهامه إطلاقاً.
من ناحية ثانية، فإن حماس لم تقدّم مبادرة سياسية حتى يتم تحليل سياقها الزمني والموضوعي، وإنما وثيقة مبادئ وسياسات تم إعدادها بهدوء، ومرّ إعدادها ببيئات سياسية وإقليمية ودولية مختلفة، وهو ما أفقد موضوع التوقيت قيمته إلى حدٍّ كبير؛ وإن كان من حق قيادة حماس أن تتوخى أنسب الأوقات لإصدارها.
والواضح أن أهمية إصدار الوثيقة أخذت تتغلب على مراعاة التوقيت؛ حيث لم يعد ثمة مجال للتأجيل بعد استكمال إعدادها وإقرارها من كافة الأطر القيادية والشورية في الحركة، ومشارفة الولاية الزمنية للقيادة التي رعت إصدار الوثيقة على الانتهاء.
وعلى سبيل المثال، فإن قرار قيادة حماس بإعداد الوثيقة يعود إلى أواخر مايو/أيار 2013 كأحد أبرز أولوياتها كقيادة جديدة منتخبة، وكان ذلك قبل تصاعد الهجمة المرتدة على تيارات "الإسلام السياسي"، وعلى حراك الشعوب في المنطقة العربية.
ثالثاً: بين الميثاق والوثيقة: من الظلم الحط من قدر ميثاق حماس الصادر سنة 1988 بالنظر إليه من خلال بعض الثغرات التي وُجدت فيه، ودون إدراك للظروف التي تمت كتابته وإقراره فيها.
فيُحسب للميثاق تأكيده -الذي لا يحتمل اللبس- على الثوابت في بيئة رسمية فلسطينية تقودها حركة فتح، بدت مستعدة للتنازل عن الأرض المحتلة سنة 1948 ولحل الدولتين والاعتراف بـ(إسرائيل).
ويُحسب له تأكيده على الهوية الإسلامية والهوية الفلسطينية للحركة، وتُحسب له روحه الوطنية وانفتاحه على منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية. ويُحسب له أن قامة إسلامية وطنية ورمزاً قيادياً في حماس قام بكتابة مسودته هو الأستاذ عبد الفتاح دخان؛ وجرى اعتماده من قيادات ورموز مؤسِّسة لحماس في الداخل.
عالجت الوثيقة ثغرات في الميثاق كان أبرزها ما يتعلق باليهود، حيث كان ثمة لبس بين اليهود كأتباع ديانة وأهل كتاب، وبين اليهود الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين. وهي ثغرة غير مقصودة باعتبار أن الثقافة الشعبية التي كانت سائدة في العالم العربي والإسلامي تستخدم لغة مبسطة في استخدام المصطلح وتعميمه.
غير أن الجانب الإسرائيلي استغل هذه الثغرة لاتهام حماس بـ"اللاسامية" وتشويه صورتها في كل مكان. ولذلك أكدت الوثيقة أن حماس لا تحارب اليهود لكونهم يهوداً أو بسبب ديانتهم، وإنما تحارب المشروع الصهيوني والصهاينة المعتدين المحتلين لفلسطين. كما عالجت الوثيقة الجوانب المرتبطة بالصياغة السياسية والقانونية، فقدمت صياغة محترفة متماسكة؛ وتجنبت التوضيحات والشروح التي أسهب فيها الميثاق.
رابعاً: احترام المؤسسية: رغم الظروف السياسية والميدانية القاسية التي مرت بها حماس في السنوات الأربع الماضية، ومحاولات إسقاطها وإفشالها في قطاع غزة، ومحاولات مطاردتها واجتثاثها في الضفة الغربية، ومعاناتها الصعبة في بيئة إقليمية مضطربة؛ فإنه يُحسب لحماس أنها قدمت وثيقة سياسية ناضجة طبختها على نار هادئة، وفي أجواء تحترم العمل المؤسسي وتلتزم بمخرجاته.
فقد حظيت الوثيقة بنقاش واسع ومعمق في كل أطرها المعنية في الداخل والخارج، وأقيمت لها ورش عمل في بلدان عديدة، وقامت الجهات المختصة بإدخال التعديلات والتحسينات على النصوص في عدة مسودات وقراءات، إلى أن تم اعتمادها نهائياً في قيادة الحركة التنفيذية، ثم في مجلس شوراها العام أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2016. وتُرك بعد ذلك للقيادة صلاحية وضع بعض الرتوش وتحديد توقيت إطلاق الوثيقة.