هي شهادات للزمن ممن كانوا حاضرين من نقطة صفر لتفاصيل معركة سيف القدس، ليسطرها التاريخ وتعرف الأجيال القادمة من خلالها، حقيقة ما عاشه أهالي قطاع غزة بسبب الاحتلال وعدواناته المتكررة عليهم.
ضباط الإسعاف جنود مجهولون حملوا على أكفهم رسالة إنقاذ أرواح بريئة، لا ذنب لها، لكنها عاشت على أرضها تحلم بالحرية والأمان؛ في ظل احتلال غاشم أراد أن يكون الموت مصير كل من عاش فيه.
خلال العدوان الذي شنه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، في مايو/ أيار بدأ ضباط الإسعاف في مناطق قطاع غزة عملهم وفق خطة معلومة لهم، فالعدوان ليس الأول ولن يكون الأخير، ووفق خبرتهم في العدوانات السابقة عرفوا ما هي مهامهم الموكلة إليهم.
متابعة الأحداث أولًا بأول، التوجه لأماكن القصف بعد ثوانٍ من سماع صوتها، أو حتى رؤية وميض نيرانها، التغلب على معوقات الاحتلال الذي دمر الطرق الرئيسة أمامهم، تنفيذ المهمة الرئيسة لهم وهي: سلامة الأجساد سواء فارقتها الروح أو بقيت فيها، هي أبرز مهام ضباط الإسعاف خلال العدوان الأخير على القطاع.
من الميدان
ضابط الإسعاف زياد عبد الدايم من بيت حانون شمال قطاع غزة، كان من الحاضرين في الميدان منذ الساعات الأولى لعدوان الاحتلال الإسرائيلي، حينما شنت طائراته قصفًا شديداً على البلدة؛ ما أسفر عن وقوع شهداء وإصابات.
مجزرة بمعنى الكلمة، هي توصيف ما حصل عند استهداف بيوت المدنيين في أول أيام العدوان، كما يقول عبد الدايم لصحيفة فلسطين، ومهما تحدث الإنسان عما رأى فلا يمكن أن يوصل الصورة الحقيقية لما حصل على أرض الواقع من دمار ووقوع شهداء وجرحى بأعداد كبيرة.
"عملُنا لم يقتصر على بلدة بيت حانون"، -والرواية لا تزال لضابط الإسعاف- بل امتد إلى عدة مناطق استهدفها الاحتلال، لنتنقل بسيارة الإسعاف إلى بيت لاهيا ثم جباليا ثم نعود إلى بيت حانون لتحقيق مهمة واحدة؛ وهي إنقاذ لأرواح العشرات من المواطنين الضحايا الذين وقعوا فريسة لطائرات الاحتلال ومدفعيته.
"الطريق الرئيس دمره الاحتلال بصواريخه التي دكت أرضه وجعلته غير سوي؛ ما اضطر سائق سيارة الإسعاف التي نستقلها إلى البحث عن طرق فرعية للوصول سريعًا إلى البيوت المقصوفة، هي مهمة صعبة مع استمرار القصف خاصة في ساعات الليل، لكن لا بد من القيام بها".
"إنقاذ الأرواح أولوية عندنا"، هذا ما يؤكده عبد الدايم: "فبمجرد سماعنا أي قصف قريب منا كنا نتوجه مباشرة إليه في محاولات لإنقاذ المدنيين من تحت الأنقاض، أعداد كبيرة من الشهداء نقلت إلى المستشفيات، وكان أكثرها تأثيرًا فينا هم الأطفال الذين تناثرت جثامينهم بسبب شدة القصف".
وعلى الرغم من صعوبة الوضع، كان عبد الدايم يجد بعض الفرح الذي يخرج من بين الدمار عندما يكون له يد في إخراج أحد الناجين من تحت الركام، أو إنقاذ طفل ووضعه بين يدي أهله سليمًا ولا تزال الروح متشبثة به.
تغير الملامح
حسن عمران من خانيونس، هو الآخر من ضباط الإسعاف الذين وجدوا في الميدان على مدار الساعة، ساعد في عمليات إخلاء المواطنين من أماكن القصف، يتنقل من مكان لآخر حتى وصل إليه اتصال بضرورة التوجه لبيت سقط عليه صاروخ إف 16 ليفاجأ عند وصوله أن الصاروخ لم ينفجر وأن عناية الله تكفلت بحفظ أرواح 30 فرداً كانوا يقطنون ذلك البيت.
يقول عمران في حديثه مع صحيفة "فلسطين":" المشاهد المؤلمة كثيرة، ولكن أصعبها هي ما حصل عندما شنت طائرات الاحتلال 10 غارات في أقل من دقيقة واحدة في أحد الشوارع، لنتوجه بعدها للمكان لنجد الأرض غير الأرض والمكان قد اختلف تماماً عما كنا نعرفه".
ويضيف: "ما أزال أتذكر ملامح الأطفال والنساء الذين خرجوا من بيوتهم يملأهم الرعب يبحثون عن أمان غير موجود، فأينما توجهوا كان القصف والضرب في كل المناطق، مشاعر أصابت الجميع خاصة الأطفال والنساء".
ولم تتوقف الذكريات الأليمة عند هذه، لتستمر حتى بعد إعلان وقف العدوان الجوي، ليكون عمران من العاملين على انتشال جثامين شهداء استهدفهم الاحتلال بالغاز السام خلال العدوان، ليجدهم قد تغيرت ملامحهم فانتفخت وجوههم وأجسادهم دون أن يصابوا بأي خدوش أو إصابات ظاهرة.
يشير عمران إلى أنه في كل عدوان مشاهدُ مؤلمة لا يمكن محوها من الذاكرة، كأن تحمل رأس طفل انفصل عن جسده، أو أن تنهال البيوت على رؤوس ساكنيها، أو تتغير أشكال الشهداء لأن الاحتلال يجرب عليهم أسلحة جديدة.
ويردف: "لكن يبقى عملنا في الإسعاف مسؤولية؛ فنحن نقاوم بتقديم الخدمات الصحية لإنقاذ الأرواح".
آثار ما بعد العدوان
ضابط الإسعاف محمد مدوخ من غزة هو الآخر كان شاهدًا على الكثير من المجازر التي ارتكبها الاحتلال، حيث وُجِد منذ الليلة الأولى على رأس عمله ليكون شاهدًا على جرائم أقل ما يمكن وصفها بأنها "بشعة" و"ضد الإنسانية".
ففي أول أيام العدوان كان القصف الشديد من نصيب بلدة بيت حانون، وثم كان من نصيب مدينة غزة التي شهدت عمليات قصف مكثف، خاصة للمنازل مثل منزل عائلة أبو حطب وغيرها.
انتهى العدوان بكل ألمه وأوجاعه ولكن يبقى ضباط الإسعاف يحملون هذه الآلام والذكريات معهم، خاصة أن من شاهد المجازر على شاشات التلفاز ليس كمن كان قريباً من مسافة صفر منها.
"مشاعر كنا مجبرين بوصفنا ضباط إسعاف على تجاهلها أو إسكاتها لحين الانتهاء من مهمة إنقاذ المدنيين، لتعود لها الحياة بعد عودتنا إلى بيوتنا نراها في كل ركن من المنزل، في وجوه أبنائنا التي تشبه وجوه الأطفال الشهداء، نراها في الشوارع المدمرة، في وجوه الأمهات التي تحمل وجع الفقد".
"نحاول أن نتشاغل عنها بالعمل فتتركنا مدةً وتهاجمنا في ساعات الخلوة وخاصة عند النوم، تشاركنا وسائدنا وأسرَّة نومنا وتجعل من مهمة إغماض عيوننا أمراً شاقاً، حيث ترى أمامها شريط ذكريات لن يكون من السهل نسيانه".