استل سيفَ العلم في معركةٍ حامية الوطيس، دارت رحاها في الخفاء، تصارعت فيها "الأدمغة"، والتصق اسمه مع كل صفارة إنذارٍ يدوي صداها في قلوب المحتلين، يعزفُ ورفاقه سمفونية رعبٍ تذكر الغاصبين بحقيقة أن لا وجود لهم على أرض فلسطين، أما بين الطلبة فهو دكتور الهندسة الهادئ، صاحب الابتسامة المشرقة، والضحكة الصافية، ترك أمريكا وملذات الحياة فيها، وترفَّع عن أعتى المغريات حينما وصلت أبحاثه لوكالة "ناسا".
فكان ينظر من منظار أبحاثها العلمية إلى الأفق، وبدت له من خلال الرؤية فلسطين أفقًا آخر في قلبه، ثم مسيرة طويلة من العلم، ترك خلفه مئات الأبحاث، ليكتب المهندس العالم درسه الأخير بالدم حينما ضمته أعماق غزة إليها كأمٍ حانية في وجه الصواريخ الإسرائيلية التي تساقطت عليه، لتعرج روحه إلى السماء، ويزاح الستار عن اسم العالم الشهيد د. جمال الزبدة.
الشعر الأبيض شاهدٌ على رحلة علمية طويلة رسمها بالقلم الأحمر، والعيون التي عجنت ليالي طويلة خلف شاشة الحاسوب، وأمام كثافة الأوراق رسمت خارطة الوطن أمامها محررًا، في كل صلاة كانت سبابته تشير دومًا نحو السماء يلحُ على الله بأن يعطيه "الشهادة" بكى كثيرًا بين يدي جلالته، لينال ما تمنى بعد أن طرقَ عامه الخامس والستين من عمره، تاركًا خلفه تاريخًا حافلا بالتضحية.
الآن يرحل الدكتور جمال حاملاً حقيبة سفره، ويتركَ مئات الأبحاث العلمية التي حتمًا لم يغتلها الاحتلال، ولم تصل إلى نسخها الكثيرة صواريخه، فهي متجذرة في عقل كل طالبٍ درسه العالم الفلسطيني الشهيد.
لا يوجد أفضل من أمينة سره ورفيقة دربه زوجته نسرين القيشاوي "أم أسامة" لتزيح الستار عن حياة الدكتور الزبدة، وبينما هي تروي التفاصيل وتفتح صندوق الذكريات كانت "فلسطين" تنصت لمحطات مرت عليها من حياته، لننقلها إليكم.
وأنت تستمع إلى صبرها وهي تلقي على روحه السلام: "الحمد لله طلبها وألح على الله بها، ونالها"، تشعر بعمق الحزن الذي يضرب قلبها، هي تقرُ بذلك والأسى يسيطر على بريق عينيها ويتجسد في صوتها: "ربنا يصبرنا على فراقه، غيابه ليس هينًا، كان نعم الزوج والأب والأخ والصديق".
ترفَّع عن رفاهية الحياة
تفتح أرشيف حياته المخزن على أرفف الأيام، كانت هشاشة الفقد تختبئ خلف صلابة صوتها الصابر المحتسب: "تزوجته عام 1985م، وبدأت معه رحلة الدكتوراة التي درسها بولاية فرجينيا بأمريكا، وكانت رسالته مع الدكتور علي نايفة أحد العلماء في وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" حول تطوير هياكل وأجنحة الطائرات، وبعدها استمر عامين يطور أبحاثه مع أشهر الجامعات الأمريكية ووكالة "ناسا".
لكن الدكتور جمال كان يرى أن البلاد العربية أحق بعلمه وعقله، وأحقُ أن يخدمها، تشد تلك المرحلة من روزنامة الأيام: "العديد من الجامعات الأمريكية والشركات التي وصلتها أبحاثه، كانت تقدمُ له عروضًا مغريةً للعمل معها، من سكن في فللٍ وامتيازات معيشة لا حصر لها، ومناصب علمية لكنه رفضها، وكنا على وشك الحصول على الجنسية الأمريكية".
سافر وزوجته تاركين مغريات أمريكا وراء ظهريهما كنوعٍ من التضحية، إلى الإمارات "كنا هناك نعامل معاملة مميزة، فالعقد أبرم مع جامعة الإمارات على أساس أننا أجانب براتب وسكن وحياة مرفهة، ليفكر بتضحية أخرى بالعودة إلى غزة إرضاءً لوالده الذي طلب أن يكون أحد أبنائه بقربه – فقد كان معظمهم مهندسون وأطباء في الخارج – وحرص على نيل رضاهما، والأمر الثاني خدمة أبناء بلده في غزة، اشترى بهذه التضحية الآخرة وكان يقول: كلي أمل أن أستشهد في سبيل الله حتى آخر لحظات حياته".
من الأبحاث التي قدمها لوكالة "ناسا" إضافة لرسالة الدكتوراة (تطوير هياكل وأجنحة الطائرات)، تتعلق بأجنحة الطائرات التي تهبط على سطح الماء وتنزل على مهابط بلا مدارج، "كان يعمل على أبحاث علمية بأمريكا صعب تخيلها وغير موجودة في العالم العربي".
عرضت عليه مناصب لشغل حقائب وزارية ورئاسة بلديات لكنه كان يرفض، زوجته تعرف سبب الرفض "لأنه لم يتفرغ للحياة الدنيا، وهدفه كان خدمة الأقصى والوطن والتحرير وعدم إيجاد أي شيء يشغله عن تطوير المقاومة، تخيل أنه كان يدرس في الجامعة حتى آخر لحظات حياته في الفترة الصباحية حتى العصر وباقي اليوم يدخر كل وقته لتطوير المقاومة".
بينما كانت تصطف أم أسامة أمام زوجها وهو يؤمهم للصلاة، ويلهج إلى الله بالدعاء ويبكي في طلب الشهادة بإلحاح، لم يطاوعها قلبها، فتتعطل حركة أحبالها الصوتية، تتردد كثيرًا قبل أن تجيب خلفه "آمين" فقد كانت تخشى لحظة الفراق، وتدرك أن رحيل شخص يستوطن القلب لن يكون سهلاً.
في شقة لا تزيد مساحتها على 180 مترًا بمدينة غزة، عاش الزبدة حياته، أنشأ مكتبة علمية اتسعت لأبحاثه، كان يقضي فترات طويلة خلف شاشة الحاسوب يعد لحرب الأدمغة ما يقارع به علماء الاحتلال، هذه المرة ابتسمت أم أسامة من بين حطام الفقد "كنت أمازحه وأعاتبه على طول فترة جلوسه أمام الحاسوب وأقول له: "اللاب توب زوجتك الثانية" فيبتسمُ ضاحكًا، لكنه كان يعوضنا عن هذه الفترات، حتى أنه كان قريبا من أبنائه، وكلما سنحت له الفرصة يذهب للعب كرة القدم معهم.
"اللي زيك يا بابا، ما شاء الله عايشين حياة برغد" لم يكن يتجاهل الدكتور كلام أبنائه، فقد كان جوابه الدائمُ درسًا حياتيًا لهم وللأجيال الأخرى: "المهم أنه لم ينقصكم شيء، ونعيش حياة كريمة، أما الحياة المرفهة فإن شاء الله في الجنة" تعلق زوجته: "طوال حياته كانت نيته خالصة لله ورباهم على تلك المبادئ بعدم الركون للدنيا ومغرياتها".
أمينة سر الدكتور كانت على علم بأنَّ له يدا في تطوير قدرات المقاومة، وإن لم تتعرف على تفاصيل ذلك، كانت تراها مع كل يومٍ يعود فيه إلى البيت سعيدًا بنجاح أو تجربةٍ ما تكللت بالنجاح، فقد كان يعود بقسمات وجهٍ تختلف عن أي ابتسامة وفرح ويمثل لها إشارة لذلك، تستحضر صورته، كمن يسحبُ دلوًا من عمقِ بئرٍ جوفي: "كانت المعلومات التفصيلية سرية لا يطلعنا عليها، لكن كنت أعرف بتطويره لشيء ما حينما يأتي ويسجدُ شكرًا لله، يشاركنا تعابير وجهه وفرحه، دون أن نعرف أي شيءٍ".
"سأقول شيئًا عنه".. ينبعث من صوتها الفخر ومن عينيها البهجة وهي تقفزُ لمحطة أخرى من صفاته: "أتدري أنه كان يقبل يدي بناته حينما يعود من العمل ويحتضنهن؟ فقد كان أبًا حنونًا أو ربما تقول مفرطًا في الحنان، يقول لهن اطلبن ما تشأن".
لمة عائلية مفقودة
برغم الألم الذي يعتصر قلبها ويرتطم حطامه بداخلها ترك زوجها لحظات "حلوة" ستذكرها به، سيمر يوم الجمعة من كل أسبوعٍ، الذي اعتاد فيه الدكتور جمع أبنائه الخمسة (ثلاثة أولاد وبنتان) على مائدة واحدة، "متعودين يجوا الأولاد يقضوا معنا يوم الجمعة يحب هذه اللمة" تأبى الدموع إلا أن ترافق صوتها هنا وتذيب صلابتها: "ربنا يعيننا ويصبرنا، فلمتنا افتقدت شهيدين زوجي وابني".
ستمتزج هذه اللمة من كل أسبوع برائحة الفقد، ستنظر أم أسامة وباقي أبنائها، للمقاعد الفارغة لأسامة ووالده، حتمًا ستنزلُ دموعهم وسيبكون، ستغسل تلك القطرات التي ستهرب من حواف أحداقهم أحزانَهم، سيرشقون الاحتلال بوابل من اللعنات تختزن داخل صدورهم، سيلعنون من أذاقهم اليتم، وجعلهم يجربون مرارة الفقد.
من المشاريع العلمية التي تعلمها "أم أسامة" لمحاولات زوجها العالم بغزة: "استخراج الطاقة الكهربائية من أمواج البحر"، وعلى الرغم من أنه عمل عليه على مدار عام كامل محاولا بعقله إنارة حياة الغزيين وإزالة ظلام وضعهم الاحتلال فيه، فإن عدم توافر الإمكانات والدعم اللازم حال دون استكماله.
حلم أبو أسامة أن يرجع إلى بلده يافا، لطالما أخذه الحنين إلى "عروس البحر"، وأن يصلي بالأقصى ويحضر التحرير، لكن صاروخ "عياش 250 كم" كان من بقايا رائحة زوجها يكمل تلك الأمنية وهو يحلق بها في سماء فلسطين في أي بقعة يريد الوصول إليها يطيرُ حرًا محررًا أجواءها، "كنا سعداء جدا وسجدنا لله بفخر، فهذا الإنجاز جاء بعد تعب سنين وسهر ليالٍ وتضحية".
تزورها كلمات سبق وأن أعرب عن خوفه أن تتحقق: "يا خوفي أموت في فراشي" دمعتها التي ذرفتها كانت مبللة بحزن عارم في قلبها، لكنها تحاول التماسك "فخورة به، فقد احتسبنا حياتنا لله، كان حلمه أن ينال رضا الله للوصول إلى الجنة".
لم يلبِّ الدعوة
وكأنه يجهز حقيبة سفره لم يُبقِ شعوره حبيسًا داخل حدسه الداخلي، بل أطلع زوجته عليه "بدي أستشهد، ديري بالك على الأولاد وأحفادي" بهذه كلمات انبعث القلق من عينيها، وكأن ساعة الفراق اقتربت، وقفزت من قلبها كومة مشاعر لم تترجم تساؤلاتها الداخلية "ما الذي يدفعه لقول ذلك؟"، فقد تعطلت كل أبجدياتها عن الرد، وتوقفت أحبالها الصوتية عن الكلام كقطار تعطل فجأة.
في يومه الأخير قبل أن يأتي محمولا على الأكتاف بكفن أبيض مثل وجهه الملائكي جثة هامدة بلا نفسٍ بجواره يرافقه ابنه الشهيد أسامة قبل خروجه الأخير بيومٍ واحد، دعته "أم أسامة" للإفطار في البيت فقد كان صائمًا ومن ثم يذهب لعمله الذي استُدعي إليه، في وقت كانت السماء تعج بالطائرات الإسرائيلية، وتجهز مخازن حقدها، لكنه أجابَ معتذرًا عن تلبيةِ طلبها بنظرةِ مودعٍ: "إذا ما النا نصيب نرجع حفطر مع الحور العين".
"لحظة القصف الذي استهدفه، شعرتُ بوخزة في قلبي، ونظرت إلى ابنتي فرأيتها غارقةً في البكاء، ثم كانت الصدمة الكبرى أن أسامة كان مع والده واستشهدا معًا" وكأن تلك الصواريخ التي وصلت إلى أسامة ووالده اخترقت قلبها، واهتزت جدرانه، بعد أن فقدت أعمدةً لطالما اتكأت عليهما.
ينزفُ الحزن من صوتها كجرحٍ لم يضمد "الحمد لله، نسأل الله الصبر" مستذكرةً آخر اللحظات "رغم انشغال أبو أسامة في حياته واعتذاره – بغير إرادته – عن مناسبات عائلية، لكنه في آخر أيامه زار إخوته ولبى اجتماعا أسريًا لوالدي، وكأنه كان يودع الجميع".