بعد الصمود الأسطوري لشعبنا في غزة وقدرة المقاومة على ردع الآلة الحربية الإسرائيلية على مدار 11 يومًا في معركة سيف القدس، التي غيرت وجه المعادلة، وفرضت قواعد اشتباك مختلفة، لم يعهدها العدو من قبل، وأسست لمسار سياسي مختلف بعد سقوط كل المراهنات على إمكانية هزيمة المقاومة أو إزاحتها من المشهد.
هذا بدوره فرض على كلٍّ من: الأنظمة في المنطقة، والإدارة الأمريكية، والأوروبيين، حتى )إسرائيل( تغيير قناعاتها وتبني خيارات مختلفة لإنهاء الصراع القائم، وذلك بتبني خيارات سياسية بعيدًا عن الخيار العسكري الذي أثبت فشله، وكان ممتدًا على مدار 15 عامًا من الحصار والإغلاق والحروب المتواصلة، التي خرجت منها حركة حماس وباقي فصائل المقاومة أكثر قوة وأكثر قدرة على المواجهة، إذ تعاظمت لغة التحدي، وزاد الاحتضان الشعبي، وامتد بصورة غير متوقعة ليشمل كل الأراضي الفلسطينية وصولًا للأراضي المحتلة عام 1948، الأمر الذي جعل الخيارات السياسية هي الأكثر تقدمًا على الطاولة بعد فشل الخيار العسكري في إحراز أي تقدم.
وهذا يعني أن المقاومة الفلسطينية راكمت النقاط جيدًا، ونجحت تمامًا في استثمار هذه المعركة بصورة ذكية، وأعطتها بعدًا سياسيًّا، لأنها لا تسعى لأي معارك عسكرية دون أهداف واضحة، فقد أدارت المعركة العسكرية بالتزامن مع جهد سياسي ودبلوماسي كبير.
هذا بدوره يؤكد أن قيادة المقاومة لديها الوعي والمسؤولية والقدرة الكاملة على إدارة المشهد بطريقة حكيمة تؤهلها لإنقاذ الوضع الراهن، وتصحيح المسار الفلسطيني بعد أن دخل أو أدخل في نفق مظلم بفعل الارتهان لمشروع التسوية والاستسلام لهذا الاحتلال من طريق فريق السلطة في رام الله الذي بدا هشًّا وضعيفًا ومعزولًا وفاقدًا لأي شرعية.
لذلك إن ما يجري من تحرك سياسي في المنطقة يأتي ضمن هذا الإطار لقناعة الأطراف جميعها أنه لا يمكن تجاوز حركة حماس وباقي فصائل المقاومة لأنها جزء مهم في هذه المعادلة، فهي من تمتلك قوة التأثير، وبالتالي من يريد الهدوء والاستقرار وحسم كثير من الملفات عليه الجلوس مع هذه الحركة وباقي فصائل المقاومة التي باتت تشكل قوة سياسية وعسكرية وجماهيرية لا يستهان بها.
وتأتي زيارة وزير المخابرات المصرية (عباس كامل) ممثلًا للرئاسة في هذا الإطار، الذي تؤمن فيه مصر بأهمية دور حركة حماس وقدرتها على الحسم في كثير من الملفات؛ فهي من تمتلك القوة الميدانية والحكمة السياسية الكاملة لإدارة المشهد، لذلك جاء الوفد المصري محملًا بعدد من الملفات على الرغم من زيارته إلى قيادة السلطة الفلسطينية قبل القدوم لغزة.
ففي الحقيقة لا يمكن لمصر أن تحسم ملف "وقف إطلاق النار" مع قيادة السلطة مع عدم امتلاكها أي عوامل قوة، ولكونها كانت خارج المواجهة الدائرة، كما أنها لا يمكن أن تحاور هذه القيادة على ملف التبادل لأن الأسرى بيد حركة حماس، حتى فيما يتعلق بالإعمار السلطة لا تملك حسم هذا الملف لأن حركة حماس هي من تحكم قطاع غزة وتقرر سلمًا وحربًا ومعها فصائل المقاومة.
حتى على صعيد الجهود الدولية إن الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والإسرائيليين، وغيرهم من الجهات الأممية كانت تتواصل مع القيادة المصرية للتوسط لدى حركة حماس حتى إنهاء جولة القتال والتوصل لتفاهمات تنهي الصراع القائم.
وإن معظم الاتصالات التي جرت مع قيادة السلطة الفلسطينية أخذت الطابع الشكلي دون أن تفضي إلى مضامين مهمة على الرغم من اهتمام كل الأطراف لدعم وتعزيز السلطة واستعادة مسار التسوية مجددًا، لكن هذا يمكن أن ينجح فقط مع توافر شرعية كاملة لهذه السلطة ومقدرة على تمثيل كل الفلسطينيين وامتلاك القوة الكافية لفرض مسار التسوية، وهذا ما تفتقده السلطة مع انهيار مشروعها وعزلتها وفقدانها أي قوة حقيقية.
لذلك إن التطورات الأخيرة خصوصًا مع دخول وزير المخابرات المصرية للقطاع ولقائه قادة حركة حماس وفصائل المقاومة ستحمل تغيرًا ملحوظًا في تعامل مصر مع قطاع غزة، ومع حماس تحديدًا التي نجحت أخيرًا في بناء علاقات مع مصر لا تزال في إطارها التكتيكي ولم تصل بعد إلى عمق إستراتيجي.
وهذا يعني أن أي نجاح أو تقدم في الملفات الكبرى التي يحملها الوفد المصري سيعزز تمامًا من هذه العلاقة، وينقلها من بعدها الأمني إلى البعد السياسي، وهذا بدوره أيضًا سيحقق مصلحة كبرى لمصر التي تقدم نفسها دولة فاعلة ومحورية في المنطقة أمام العالم، وبالتالي سينعكس ذلك على الواقع في قطاع غزة وعلى المشهد السياسي عمومًا بما يحقق الأهداف الكبرى التي تسعى لتحقيقها المقاومة.