تطالعنا مواقع (السوشال ميديا) يومياً بمقاطع تظهر مدى التفاعل الشعبي مع رموز المقاومة الفلسطينية، وخاصة محمد الضيف وأبو عبيدة، وكيف حظيت هذه الرموز بمحبة وتقدير الجمهور الفلسطيني، وأكثر الجمهور العربي والإسلامي، وهي محبة خالصة أكيدة، لم يُجبر أحد على ادعائها، ولم تأتِ بدافع الرغبة في التملق لأي جهة، أو نتيجة ترغيب أو ترهيب.
لقد حلّت صورة الملثم المهيبة مكان صور اللاعبين والفنانين على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي لدى كثير من الشباب، وبدا أن ظلّ الضيف وأثره أبعد مدى من كلّ التوقعات، ولنا أن نلقي نظرة على تفاصيل الأعراس والمناسبات على امتداد فلسطين التاريخية، لندرك حجم حضور هذه الرموز، ولنشاهدها تمتزج مع كل أهزوجة فلكلورية ودبكة شعبية، وما تحصده من تفاعل واسع، وملايين المشاهدات على موقع يوتيوب، فصار كل مغنّ معنياً باستحضار الضيف وأبي عبيدة وصاروخ العياش في مفردات أغانيه وأهازيجه، وصارت (الدلعونا) و(الدحية) لا تُطرب الجمهور إلا إن طُعّمت بإشارات لصنيع المقاومة في غزة، وعزفت ألحان صواريخها، وترنّمت برموزها. ولم تفلح استجوابات الاحتلال لبعض المغنين الشعبيين في الحدّ من هذه الظاهرة، بل زادت من الرغبة في التحدي لدى جمهور الشباب.
هذا التحوّل الواضح والواسع في ذائقة الجمهور واهتمامه يعيدنا بالذاكرة إلى سنوات كانت فيها بعض الفضائيات العربية تعيش ذروة إفسادها، عبر ما تقدمه من برامج فنية من خلال منصاتها، تحاول عبرها صناعة رموز تافهة والتمكين لها في وعي ومشاعر الجيل الشاب، وكان المستاؤون من هذه الظاهرة لا يجدون سبيلاً سوى المطالبة بصناعة نماذج فنية محترمة وإقناع جيل الشباب بها، مع أن مثل هذه المطالبات لم تكن واقعية لأسباب كثيرة، فالصناعة تحتاج أموالاً طائلة لاستثمارها في البرامج البديلة، لكن الأفضلَ منها إفساحُ المجال أمام النماذج التلقائية لتكون هي الرموز والقدوات وعناصر التأثير.
واليوم، نجد أنفسنا أمام نماذج حقيقية استطاعت أن تملك على عموم الناس مشاعرها وتكتسب محبتها الخالصة، ويكون لكلماتها صدى وتأثير عميقان، لكنها ليست نماذج فنية أو ثقافية أو رياضية، بل نماذج جهادية مقاتلة، صارت اليوم هي النجوم البديلة، أو على الأقل النجوم الأثيرة التي يتفوق سطوعها على بقية نجوم الغناء والتمثيل والرياضة. صحيح أن أثر هذه الأخيرة لن ينعدم، لكنّ هنالك اليوم من ينازعها مكانها في وعي الجمهور وعاطفته واهتمامه، فضلاً عن كون النجوم الجديدة محلّ اقتداء واحتذاء، ولعل هذا مما يقلق راحة المحتل ومن خلفه كل المفسدين داخل الأمة.
لعلّ كلمة السر في ذلك كله تتلخص في عاملين: الفعل، والجوع للكرامة، فهذه الرمزيات الجديدة حصلت على مكانتها بفعلها وصنيعها المشرّف والخارق للتوقعات، ولجدر الضعف والمستحيل، وهي من جانب آخر استجلبت مشاعر وافرة بالكرامة لدى عموم الناس، بعد حالة من الإحساس بالعجز والشلل وافتقاد إمكانية تجاوزهما.
إن في الناس خيراً كثيراً يحتاج لاستخراج، وهذا لا يكون إلا بامتلاك مفاتيح قلوبها، وليس هناك ما هو أعظم من مفتاح الفعل المقاوم في الأوطان المحتلة، أو الموبوءة بالاستبداد على مستوى الأمة، فرمزية المقاتل الحقيقي لا تدانيها رمزية أخرى مهما كان زيفها متقنا، لكنّ تواصل حضور هذه الرمزية في الذاكرة مرهون باستمرار جدارة المقاتل بالتعبير عن آمال جمهوره وتلبيته استغاثات مستضعفيه وإثخانه في عدوه.
والواجب اليوم العمل على تكثيف حضور هذه الرمزيات في وعي الناس وذاكرتها، بحيث لا يكون تعلّقها بها موسمياً وطارئاً بل دائماً ومتفاعلا، وهذا يتطلب إضاءة الجوانب المعتمة وغير المرئية من الحالة المقاومة، وتعريف الناس بكل الدعائم التي صاغت لهم هذا المجد وعززت لديهم الشعور بالكرامة، وعلى كل وسائط الإعلام الداعم للمقاومة ألا تنتظر أن يبحث الناس عن المعلومة والرمز واسم المقاتل، بل أن توفرها لهم في قوالب جديدة وإبداعية، تضمن التعريف بكل جوانب الحالة المقاومة من جهة، واستمرار التفاعل معها من جهة ثانية، وزرع معانيها في الوعي الجمعي من جهة ثالثة.
وعلينا ألا ننسى أن لحظات العزة التي عاشها الأحرار على مستوى الأمة لم تأت من فراغ، ولا كانت لحظات صدفة عابرة، بل هي نتاج جهد جبار مبذول عبر السنين، ومشيّد بأشلاء ودماء من صاغوه، وحرسوه بيقينهم وإيمانهم وإرادتهم الفذة، حتى استغلظ فاستوى على سوقه، وامتد نوره في أرجاء الأرض كلّها.