تدور الآن في "الخفاء والعلن" معركة أخرى تحاول عبرها قيادة المقاومة -وفي مقدمتها حركة حماس- الضغط على كل الأطراف، لتحقيق مكاسب سياسية مهمة مرتبطة بالحقوق والثوابت الفلسطينية، بعد أن نجحت في تحقيق صورة النصر بالمفهوم العسكري.
كان ضمن ذلك إجراء الاتصالات بعدد من الأطراف في المنطقة والتقاء جهات عربية وأممية خارج وداخل فلسطين على مدار الساعة، مع بقاء حالة الاتصال والتشاور المباشر بين قيادة المقاومة التي صاغت أهدافها الإستراتيجية التي تنوي فرضها معادلة جديدة في تاريخ الصراع.
لكن تحديات كبيرة تواجه هذه الجهود، ما يدفع قيادة حماس وباقي فصائل المقاومة لإعادة التلويح بالقوة والاستمرار في خطاب التهديد واستخدام مصطلحات مباشرة تدلل على ذلك، بأن هذه الهدنة أو الهدوء هش، وأن سلوك الاحتلال موضع اختبار الآن، وأن عدم التزامه يعني العودة مجددًا للتصعيد.
وهذا يعني أن هناك تعنتًا إسرائيليًّا في تنفيذ المطالب يعززه دعم أمريكي، وضوء أخضر من بعض الأنظمة في المنطقة، إلى جانب دور السلطة الفلسطينية المؤسف، كل هؤلاء كان ولا يزال دورهم منع حركة حماس وباقي فصائل المقاومة من تحقيق أي مكسب سياسي يوازي حجم الفعل العسكري.
وذلك لاعتبارات متعلقة بالمشاريع السياسية التي ترتب في المنطقة؛ بمعنى أنه لدى بعض الأنظمة في المنطقة وكذلك الأطراف الدولية رغبة جامحة في استعادة مسار التسوية، ودعم جهود "السلام"، وتعزيز المحادثات المباشرة بين قيادة السلطة الفلسطينية وقادة الاحتلال.
على اعتبار أن إعادة تعزيز جهود السلام وإحياء المفاوضات هي الخيار الإستراتيجي، مع تخوف النظام العربي الرسمي من تعاظم قدرة المقاومة، والخشية من تمدد التجربة لبلدانهم التي التهبت بمجرد اندلاع المعركة، وهذا ما يهدد مشاريعهم السياسية، ويؤثر في مسار التطبيع مع الاحتلال، ويمس بمكانة واستقرار الأنظمة التي نشأت في ظروف غير طبيعية.
وبذلك تُعزَّز مكانة السلطة الفلسطينية مجددًا بعد أن كانت تعيش (عزلة طويلة)، وتعاني أزمات خانقة مع القطيعة مع الإدارة الأمريكية، وحالة "الحرد العربي" من سلوك رئيس السلطة، والتنكر الإسرائيلي لها، لكن كل هؤلاء يدركون أهمية الدور الوظيفي للسلطة لكونها تمثل أحد أوجه الصد في وجه مشروع المقاومة في غزة وباقي الأراضي الفلسطينية.
لذلك إن الجهد الإقليمي والدولي يدفع بقوة باتجاه إشراف مباشر للسلطة على ملف إعمار قطاع غزة، وإبعاد حركة حماس وباقي فصائل المقاومة عن لعب أي دور محوري في هذا الملف، هذا إلى جانب منع حدوث أي ربط بين ما يجري في غزة وما يجري في القدس.
لكن في الحقيقة من (يملك القوة) هو من يفرض شروطه، لذلك لا يمكن تجاهل حركة حماس بأي صورة؛ لأن بيدها مفتاح السلم والحرب ومعها فصائل المقاومة، والسلطة ليست لديها أوراق قوة كافية لفرض إرادتها على الفلسطينيين، ولا تستطيع إقناع جماهير شعبنا بأي مبادرات سياسية جديدة، بعد فشل مشروعها السياسي، وتخليها عن واجب الدفاع عن شعبنا في هذه المعركة ومعارك سابقة.
وبذلك مع عجزها وانفصالها عن الجمهور، وعدم قدرتها على التأثير ستفشل مجددًا في إحداث أي تغيير حقيقي، وستكون عاجزة عن إعادة نفسها بالقوة السابقة نفسها؛ لأنها أصبحت متهالكة ومكشوفة، ولا تحظى بأي ثقة لدى الجمهور أو فصائل المقاومة.
ولا أعتقد أن مراهنات الأنظمة وبعض الأطراف الدولية ستكون في محلها، مع وجود طرف قوي وفاعل قادر على تغيير المعادلة وفرض شروطه تحت النار، ما سيجعل فرص المقاومة الفلسطينية أكبر لفرض نفسها، ليس فقط في تحقيق مطالب إستراتيجية بل الذهاب إلى قيادة المشروع الوطني.
لأن السلطة على الرغم من محاولات الإنعاش الإقليمي والدولي دخلت في مرحلة (الموت السريري)، ولن تعود للحياة مجددًا على الرغم من كل المحاولات اليائسة لإنقاذها، فما فعلته المعركة أسس لمشهد وبرنامج مختلف حظي بشرعية كل الفلسطينيين في غزة، والضفة، والقدس، وال48ـ، والشتات، وباركته جماهير العالم العربي والإسلامي.