أمام باب المنزل عيناهُ ترقب ابتعاد زوجته وأبنائه بعد محاولات حثيثة لإقناعهم أن "هذا هو الوضع الآمن" لهم، تبتعدُ الأجساد شيئًا فشيئًا، إلا أنّ وصال الأعين باقٍ.
كانت "يسرى العكلوك" تمشي للأمام وعيناها تعاود النظر إلى زوجها المهندس أسامة الزبدة، "كأن شيئًا من الكلام لم يُقَل بَعد وبقية للمشهد لم تكتمل".
"يسرى"، ينادي عليها "أسامة" قبل أن تختفي من مجال الرؤية، تعودُ له ضاحكة كمن عاودته الحياة للتو، يقبض على كفها ويطبع قُبلةً عليها قبل أن تشعر بوخزة في القلب فتوصيه: "أمانة.. انتبه على حالك".
ربما كانت هذه وصيةٌ لا يدَ لمقاتل مثله بها، يقضي جلّ الوقت تحت الأرض ما بين التصنيع والإعداد، ولا يعودُ لها إلا ليلًا بيديه المغبرتين ووجهه المتعب، فلا يمنعه هذا من اللعب مع أبنائه "مريم" و"جمال" و"إسماعيل" راكضًا وراءهم، وزاحفًا بينهم كأن وقتًا يقضيه معهم هو تجددٌّ للطاقة لا لنفادها.
حبٌّ بالوراثة
"أسامة" الابن الذي ورث عن والده البروفيسور جمال الزبدة العقل الراجح وحبّ الهندسة، التحق بتخصص الهندسة فور إنهائه الثانوية العامة، "كان زملاؤه في الدفعة يقولون: أسامة لا يحتاج أن يُكمل دراسة التخصص، هو يستطيع تدريسنا جميعًا!" تقول يسرى والابتسامة تخون عينيها الدامعتين فتتسلل خلسةً إلى شفتيها.
شابٌّ في الثالثة والثلاثين من العمر، حاملٌّ الجنسية الأمريكية التي سُنِحَ له من خلالها إكمال دراسة الماجستير والدكتوراه في التخصص الذي يحبّ، إلا أن تعلّقه بوالده والعمل الذي يقومان به منعه من الذهاب هناك.
علاقة "تكاملية" جمعت (الأب والابن)، رغم الرحلة الأكاديمية الطويلة التي خاضها الأب الستيني وشملت العديد من المحطات العلمية والأبحاث الأكاديمية المُحَكمَّة دوليًا إلا أنَّ "أسامة" كان الإنجاز الأبرز للدكتور جمال.
استطاع الوالد اختزال خبراته وعلمه في نجله الذي امتلك عقلية فذة استطاع من خلالها أخذ ما يلزمه من علم أبيه الواسع وبرع عمليًّا بتوظيفه في التطوير العسكري بتوجيهات من الوالد.
"أسامة" الذي عوضَّه علم أبيه البروفيسور ووفر عليه عناء سنواتٍ طويلة من الدراسة في الخارج بعدما نقل إليه "زُبدة" علمه وتجاربه الكثيرة في البحث العلمي والتطوير، وأمده بالثقة العميقة حتى تفوق الابن في عمرٍ صغيرة بشهادة والده حين خاطب زوجة ابنه ذات مرة: "زوجك اليوم يا خالي عمل اشي كان ممكن يأخذ عليه أفضل بحث دكتوراة في عام ٢٠١٩".
أسامة ظلُّ أبيه
ولأن كل أب هو قدوةٌ لابنه، كان هذا الشيء مضاعفًا بالنسبة لأسامة الذي لا يفارق والده في أيٍّ من مهماته، فأسامة "فرحةُ والديه الأولى"، ومستشار أبيه الذي لا يخطو خطوةً إلا بوجوده وسماع آرائه.
هذا التشابه الذي بدا واضحًا ليس في حب هندسة الميكانيكا فحسب، بل أيضًا في تغلل عشق فلسطين بأعماقهما والشعور بالمسؤولية تجاه أرضها: "درس جمال الهندسة المدنية بجامعة فرجينيا، ثم تخصص الطيران المدني بأميركا، ورغم عمله بالإمارات الذي كان يضمن لنا حياةً رغيدة، فإنه أصرّ أن نعود إلى غزة لتسخير علمه في خدمة الوطن والدفاع عنه"، تتحدثُ "أم أسامة" عن زوجها.
هذه العلاقة الأخوية التي سيطرت على أسامة وأبيه رغم الفرق في الشخصية الذي كان بين الحاج جمال الاجتماعي وابنه أسامة الذي يغلب عليه "الطابع الجدي" كما تصف "أم أسامة".
"شهداء متحركون على الأرض"، تتابع زوجة الشهيد (أم أسامة) لتصف زوجها وابنها اللذين يعملان بصمت بعيدًا عن الضجيج والإعلام، فيعدّان العدة وينقلان هذا العلم الذي اصطفاهما المولى فيه إلى من بعدهما، "فيقضي هذا البروفيسور نصف يومه فوق الأرض يعلِّم أجيالًا من الطلاب في قسم الهندسة الميكانيكية، والنصف الآخر تحت الأرض يُطورُ ويدرِّبُ ويجرب".
"وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ"
ثاني أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي تزامن مع نهاية شهر رمضان الفضيل الذي عزم فيه "أسامة" الاعتكاف هذا العام برفقة زوجته وعائلته على خلاف الأعوام السابقة التي يُلازم فيها المسجد خلال العشر الأواخر.
"كنا نتعب عندما نصلي مع أسامة خلال القيام، فهو يقرأ جزءًا كاملًا من القرآن خلال الركعة الواحدة" تقول شقيقته سجى وعلامات الدهشة ما زالت تخيم عليها: "كيف لأخيها بهذه الطاقة الكبيرة والإقبال على طاعة المولى والجهاد".
كان الفراق حين اشتدت وتيرة القصف والدمار، قررت العائلة النزوح من المنزل حفاظًا على حياتهم؛ فالاحتلال الذي يقصف المنازل فوق رؤوس أصحابها لا ضمان عليه؛ هكذا اقترح عليهم أسامة وأبوه ووقفا أمام باب المنزل لتوديعهم.
"لا تخافوا علينا نحنُ بمكانِ آمن، أنتم من يجب أن تخافوا على أنفسكم" هكذا مازحهم "أسامة" بعدما دبر طريقةً ما للاتصال بهم فور نزوحه إلى المكان المتفق عليه، وأبى إلا أن يكلم أبناءه واحدًا واحدًا حتى وصل ابنته الكبيرة مريم فما كان منه إلا أن يوصيها: "ميمي، ديري بالك على ماما وإخوتك"، تتحدث مريم ذات التسع أعوام والشعر الأسود الخيّالي، وبراءةُ عينيها تناهض الحزن العارم الذي يحيطُها ببيت العزاء.
أربعُ ساعاتٍ فصلت دفء الحديث عن برودة خبر استشهاد البروفيسور جمال الزبدة ونجله المهندس أسامة برفقة ثلة من المجاهدين بعد قصف إسرائيلي غادر، ليرتقي الشهداء إلى حيث يليقُ بهم أن يكونوا، ويرثيهم الشعب الفلسطيني كاملًا بعدما حلقت صواريخ المقاومة في سماء فلسطين المحتلة وغطت جميع المسافات إلى مدنها.
ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بهذا النبأ، فالبعض شارك صوره مع أسامة ووالده وموقف جمعهم، ومنهم من كتب عن مذكراته معهم، وأعمالهم العسكرية التي كانت حديث الناس بعد استشهادهم تزامنَّا مع نشر "جهاز الأمن الإسرائيلي" بأن الزبدة كان أبرز خبراء البحث والتطوير في حماس.
"أولادي جمال، وإسماعيل هما أسماء الشهداء، جدهم جمال الزبدة، وخالهم إسماعيل العكلوك.. فليحفظ الاحتلال أسماء أبنائي جيدًا لأني لن أسمح بأن يكونوا أقل من جدهم وأبيهم"، هكذا تختم "يسرى" الحديث إلى هذا المحتل الذي فتح جرحًا في كل بيتٍ فلسطيني وتجاهل أن هذا الدم الثائر لا يسكت عن ظلمٍ ألمَّ به، وسيثأر له ولو بعد حين.