حرمنا في أحد عشر يومًأ من النوم إلا بضع ساعات، عكّر صفوها أصوات الانفجارات، كنا خلالها بين يدي رحمة الله، وقوة الضربات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية التي تمكنت خلال أيام المعركة من دكّ مدننا المحتلة بأكثر من 4 آلاف صاروخ، وكانت الأرواح تناجي أصوات الانفجارات بين "اللهم سدد" في صوت صاروخ صاعد، وبين "اللهم سلم" في صوت صاروخ هابط من طائرات الحقد الإسرائيلية.
الشاهد أن ليلة الانتصار، هي الأخرى، حُرمنا فيها من النوم فرحاً بالنصر الذي تُرجم بمشاهد دخول المقدسيين للأقصى يسوؤون وجوه العسكر والجند فيه "خاوة".
شدني يومها دعوة إمام المسجد هنا في مخيم جباليا للاجئين -حيث أسكن- بعد أن جاب المخيم مسيرة خرجت الساعة 2 صباحاً مع إعلان دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وذلك احتفالاً بالنصر .. واستمرت المسيرة حتى مطلع الفجر؛ قال يومها الإمام بعد أن أم فينا صلاة الفجر: "أسأل الله أن يحييكم لتشهدوا الفتح والنصر، وزوال (إسرائيل)، ولنُصلّي معاً صلاة النصر في باحات المسجد الأقصى". ما أجملها من دعوة!
العِقد الثامن .. وعُقدة الشؤم الإسرائيلية في زوال (إسرائيل)
في عام 2017 -وهو العام الذي يوافق الذكرى التاسعة والستين لقيام (إسرائيل)- شارك نتنياهو في نقاش ديني بمناسبة عيد "العرش اليهودي"، أعرب فيه عن مخاوفه من زوال (إسرائيل) خلال السنوات القادمة؛ مخاوف نتنياهو الأخيرة كانت تختبئ خلف قوله إن مملكة "الحشمونائيم" عاشت نحو 80 سنة، وأنه يعمل لضمان اجتياز (إسرائيل) هذه المدة والوصول بها إلى مائة عام.
ومملكة "الحشمونائيم"؛ هي مملكة يهودية كانت موجودة في فلسطين، تأسست عام 140 قبل الميلاد وانتهت بسيطرة الإمبراطورية الرومانية على البلاد عام 63 قبل الميلاد، حيث دام عمرها 77 عاماً.
هذا ويتشاءم الإسرائيليون من العقد الثامن الذي دخلت فيه "دولة اليهود الثالثة" -وهي دولة الكيان المزعومة القائمة على احتلال فلسطين حالياً- ذلك أن المملكتين اليهوديتين السابقتين، كان قد جرى تأسيسهما في البلاد، وفق الرواية اليهودية، "مملكة داوود" و"مملكة الحشمونائيم"، لم تستطيعا تجاوز العقد الثامن من عمريهما.
"الحشمونائيم" (المملكة الثانية) سبق وأشرنا إليها، وأما المملكة الأولى، المسماة بـ "مملكة داوود"، جاء ذكرها في التوراة؛ كمملكة جمعت كل أسباط بني (إسرائيل) الإثني عشرة، كانت بداياتها في عهد الملك شاؤول الأول، حوالي 1020 ق.م، ودام عمرها 76 عاماً.
فرضية الأعوام الـسبع
يزعم كاتب هذه السطور أن الأحداث الفلسطينية تشهد ما يشبه حالة الانتقال من مرحلة لأخرى؛ تمهّد فيها كل مرحلة لما بعدها من المراحل كل سبعة أعوام، في حالة الصراع على الهوية والأرض والحق الفلسطيني القائمة بيننا وبين الاحتلال، بداية من عام الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 ووصولاً لعام التحرير وزوال (إسرائيل) عام 2027.
عام 1987 (الانتفاضة الفلسطينية الأولى)
هو العام الذي بدأت فيه شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والتي كانت حالة أحدثت تغييراً حقيقياً في مسار المقاومة ضد الاحتلال، والانتقال من حالة التعايش التي كانت قائمة بيننا وبينهم -في حينه- إلى حالة الاشتباك.
عام 1993 (اتفاق أوسلو ودخول السلطة الفلسطينية إلى غزة)
العام الذي أعاد مربع التعايش مع العدو الإسرائيلي وفق اتفاقيات مذلة رسم مساراتها اتفاق مهين، بيعت فيها 78% من مساحة فلسطين التاريخية للمحتل، وتم تصويرنا كعبيد مطواعين للإسرائيليين، ومهدت بعدها لدخول السلطة الفلسطينية إلى غزة، التي كانت بمثابة عين (إسرائيل) في رصد كل ما يعكر صفو أمنها.
عام 2000 (الانتفاضة الفلسطينية الثانية)
العام الذي شهد حالة صراع جديدة مع المحتل في أعقاب تدنيس رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في حينه أرئيل شارون للمسجد الأقصى، وتميز بكثرة المواجهات المسلحة، وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وأسست مساراً فارقاً أعاد لحالة الاشتباك مع العدو الإسرائيلي حضورها بعد المسار الذي كان قد أسست له اتفاقية أوسلو وفريق السلطة الفلسطينية.
عام 2007 (الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني)
العام الذي سيطرت فيه حماس على غزة، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، واضطرارها للدفاع عن حقها في الفوز الذي منحه إياها الشعب؛ إلا أن خضوع أجهزة السلطة الفلسطينية لأوامر الحزب الآخر الذي مني بالهزيمة، -حركة فتح- كان عقبة في مسار الانتقال السلمي للسلطة، مما أدى لنشوء أزمة سياسية انتهت باشتباكات مسلحة أوقعت عدداً من القتلى بين الطرفين (حماس-فتح) وخلصت إلى سيطرة حركة حماس على غزة، وهروب قيادات السلطة إلى الضفة، لتشكل جسماً موزياً للسلطة المنتخبة في غزة، هناك في الضفة.
عام 2014 (الحرب الإسرائيلية على غزة)
صنفتها (إسرائيل) بالحرب الأطول في تاريخ حروبها منذ إعلان تأسيسها عام 48 -استمرت 51 يوماً- وقال عنها وزير الحرب الإسرائيلي في حينه، موشيه يعالون، بحسب تقرير لصحيفة الشرق القطرية نشر في يناير 2015: "إن قرار تسمية العملية العسكرية، بـ"الحرب"، جاء بسبب طول المدة الزمنية للعملية، وبسبب "فقدان الكثير من الجنود، الذين دفعوا الثمن الأكثر ارتفاعاً في قتال حماس"، كما وخصصت (إسرائيل) لها "وسامًا عسكريًا" وهو شارة تقديرية تمنحها وزارة الحرب الإسرائيلية للعسكريين، والقطاعات العسكرية، تقديراً للشجاعة.
هذا ولم تُصنف (إسرائيل) كلاً من العدوان على غزة عام 2008 أو اغتيال الجعبري عام 2012 ضمن الحروب التي خاضها جيش الاحتلال الإسرائيلي كما هي الحالة في حرب غزة 2014 واعتبرتهما تحت بند "جولات قتال أو عملية عسكرية" وذلك بناء على ما يمنحه جيش الاحتلال من "أوسمة الحرب" للمشاركين في الحروب التي خاضها جيش الاحتلال الإسرائيلي.
عام 2021 لغاية عام 2027 (معركة التحرير)
الأعوام السبعة الأخيرة التي ستشهد زوال (إسرائيل)
وهي الأعوام السبعة التي رسمت ملامحها الأولى معركة سيف القدس؛ وفي الحديث للربط بين مفاصل المقال، كنت قد أشرت في فرضية الأعوام السبعة؛ بأن الانتفاضة الأولى عام 1987 كانت هي محور التغيير للانتقال بالحالة الفلسطينية من حالة التعايش والرضوخ للاحتلال إلى حالة الاشتباك.
هذا الكلام يتوافق مع ما كان يقوله الزعيم الروحي لحركة حماس الشيخ الشهيد أحمد ياسين في برنامج قناة الجزيرة القطرية "شاهد على العصر" في لقاء عام 1999، حينما قال: "أن القرآن الكريم قد أخبرنا بأن الأجيال تتبدل كل 40 عام؛ في 40 الأولى كانت النكبة (1948-1987) والـ 40 الثانية الانتفاضة والمواجهة (1987-2027) وهي الفترة التي كُنت قد فصلت فرضياتها سالفاً أعلاه؛ بتحول في مسار القضية الفلسطينية كل (7) أعوام"
وهنا تكون قد وصلت (إسرائيل) لأعوامها السبع الأخيرة في عقدها الثمانين؛ فالعام 2021 يوافق الذكرى الـ 73 لإعلان قيام (إسرائيل)، وصولاً للعام 2027 الذي "من المفترض" أن يوافق الذكرى الـ 80 لإعلان قيام الكيان؛ وهو العمر الذي لم تتمكن فيه كل من المملكة الأولى (مملكة داوود) التي عاشت 76 عاماً، والمملكة الثانية (مملكة الحشمانئيم) 77 عاما في وصول كلا منهما إلى "أواخر العقد الثامن"!
وهذا ما كنا قد أشرنا إليه؛ ألا وهو تشاؤم الإسرائيليين من بداية دخول دولتهم الثالثة (القائمة حالياً) عقدها الثامن بناء على فرضية زوال المملكتين السابقتين اللتان لم تستطيعا تجاوز العقد الثامن من عمريهما، أي نهاية العام 2027، وهو العام الذي قال عنه الشيخ الياسين "إن إسرائيل لن تكون موجودة فيه".
في مقال نشر عام 2020 تحت عنوان "إسرائيل في امتحان العقد الثامن"، كتبه رئيس مجلس الأمن القومي السابق، الجنرال في الاحتياط عوزي ديان أعاد فيه إلى أذهان المواطنين اليهود في (إسرائيل) شؤم العقد الثامن بالمملكتين اليهوديتين السابقتين، وأضاف إليهما العديد من التجارب الدولية التي تفيد بأن العقد الثامن هو عقد محمل بالمخاطر وكثيراً ما انتهى بـ"تفكك عنيف"، على حد تعبيره.
ولعل ما نشهده من فشل (إسرائيل) في تشكيل حكومتها عقب انتخابات الإعادة للمرة الرابعة، هو ركن من أركان هذا التفكك السياسي.
وإن كان هناك من إضافة يشار إليها في هذا المقام؛ فيمكن اعتبار تصريحات منظر السياسة الأميركية (هنري كيسنجر) التي نشرتها صحيفة "نيويورك بوست" في 30 أكتوبر 2012 "أنّه بعد عشر سنوات لن تكون هناك اسرائيل"، على أنها تحول متميز في تفكير هذا الرجل الذي نذر حياته كلها لحماية "الوجود الصهيوني" من الانهيار والزوال.
وقد حاولت مساعدة كيسنجر، تارابتزبو، نفي هذه التصريحات بعدما أثارت استياء (إسرائيل) ورعبها، إلا أن سيندى آدمز، المحررة في صحيفة نيويورك بوست، أكدت أن مقالها الذي نشرت فيه هذه التصريحات كان دقيقًا، موضحة أن كيسنجر قال لها هذه الجملة نصاً: “In 10 years, there will be no more Israel”
وسبق لرئيس جهاز الموساد سابقًا، مائير داغان، القول في مقابلة مع صحيفة جيروزلم بوست في أبريل 2012: "نحن على شفا هاوية، ولا أريد أن أبالغ وأقول كارثة، لكننا نواجه تكهنات سيئة لما سيحدث في المستقبل".
بـدايــة النهـايــة
معركة سيف القدس
نعم لقد أعادت معركة سيف القدس القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، لتتصدر المشهد العالمي، مُستعيدة زخمها الذي ظن كثير من المراقبين أنها فقدته مع توالي اتفاقيات تطبيع العلاقات العربية مع (إسرائيل).
ويبدو من المشهد أن هذا التصعيد بعيد عن التوقف والعودة إلى ما قبل 28 رمضان، ذلك أن شكل التصعيد هذه المرة من الجانب الفلسطيني يختلف تمامًا عما سبقه من جولات تصعيد مع (إسرائيل)؛ حيث وحدت هذه الجولة جميع أطياف الشعب الفلسطيني التي اجتهد الاحتلال الإسرائيلي في تقسيمها وتوزيعها على الضفة الغربية وقطاع غزة وشرقي القدس وداخل الخط الأخضر.
بات هناك صحوة للهوية الفلسطينية لدى الشعب الفلسطيني في الداخل، ولأول مرة تستيقظ الهوية الوطنية في صدورهم بهذه الصورة الجمعية الواسعة، شاعرين بواجب التضامن العلني مع إخوانهم في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
وعلى الصعيد العربي فقد أظهرت جموع الزاحفين إلى الحدود الفلسطينية، في لبنان والأردن وعدد من الدول العربية أن الشعوب العربية قادرة على التطلع إلى أهدافها السامية، وأن القدس تصوّب بوصلتهم مهما حاولت أنظمتهم حرفها عن مسارها.
ولا يغيب عن المشهد التظاهرات التي خرجت في كلٍ من أمريكا وكندا وجنوب أفريقيا وعواصم أوروبية وعواصم آسيوية في ملحمة أعادت بث الروح للقضية الفلسطينية؛ وبهذا تكون قد نسفت سيف القدس في 11 يومًا حلمًا بناه بنيامين نتنياهو طوال 11 عامًا، وهي الفترة التي تولى فيها نتنياهو رئاسة مجلس الوزراء الإسرائيلي قبل ذهاب (إسرائيل) لعقد انتخابات لم تُستكمل فصولها رغم جولة الإعادة للمرة الرابعة ولغاية الآن.
بين استشفاف الشيخ أحمد ياسين للمستقبل من القرآن الكريم، بأن (إسرائيل) لن تكون موجودة عام 2027، وتشاؤم الإسرائيليين القائم على فرضية يعتقدون فيها بأن دولتهم الثالثة لن تتمكن من الوصول إلى عامها الثمانين، أسوة بالمملكتين السابقتين، وتنبؤات هنري كيسنجر، نستطيع القول إن أول غيث زوال (إسرائيل) هو معركة "سيف القدس"