قائمة الموقع

لمياء وأطفالها الثلاثة.. بملابس العيد يرحلون دون وداع

2021-05-18T11:24:00+03:00

تمزق قلب رجل الإطفاء والإنقاذ حسن العطار، إلى قطع من الدم الملتهب، وهو يبحث عن أشلاء ابنته لمياء تحت أنقاض بيتها، في حين تقسو عليه ذاكرته بحديث أطفالها الذين ارتقوا معها، عن فرحتهم بملابس العيد.

في هذه اللحظات التي مرت كسلحفاة وهي تحمل ألمًا لا تقوى عليه الجبال، كان العطار يعيش مأساة مزدوجة: العدوان الذي لا يتوقف عن استهداف المدنيين، وحزنه على ابنته الكبرى لمياء وأطفالها.

"كنت على رأس عملي عندما تلقيت اتصالًا يبلغني بقصف منزل ابنتي المجاور لمنزلنا شمال قطاع غزة"، يحاول العطار التحامل على نفسه، بكلمات تبطن القهر، وتظهر التماسك.

بغتة انهمرت الصواريخ تباعًا على هذا المنزل وحولته بمن فيه إلى كتلة من اللهب.

لا يعرف الرجل الخمسيني كيف حملته قدماه وهو يهرع بتلقائية إلى مسرح الجريمة التي سرقت قطعًا من قلبه، إذ اصطحب سيارة إسعاف عله ينقذ الضحايا، وكان قلبه يحدثه باستشهاد ابنته.

تنقل بين الردم فور وصوله، وصوت ابنته وأطفالها: إسلام (8 أعوام)، أميرة (6 أعوام)، محمد (10 شهور)، يتردد في أذنيه كل ما تحدثوا به قبل استشهادهم.

فوق الأنقاض، نغصت عليه ذاكرته باستعادة شريط الأحداث، وأرجعت عقارب الساعة إلى منتصف ليل السادس من ديسمبر/ كانون الأول 1994، التي كانت "ليلة عيد" بالنسبة له، ففيها تحقق حلمه بولادة لمياء.

اتكأ العطار على الركام، وعيناه تفيضان من الدمع، وهو يستعيد صوت المهنئين حينها: "ألف مبروك ما اجاك.. لمياء".

هذه الطفلة التي أثلجت صدره، وأخذت بآماله وأمنياته بأن يكون أبًا لطفلة إلى بر الأمان، بعد أن رزقه الله بطفلين من الذكور.

لطالما كان العطار يقول والسعادة تقفز من عينيه: "الناس بتحب يكون بكرها ذكور، أنا لما اجتني لمياء كنت فرحان كتير، الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بشر أبو البنات اللي بيحسن تربيتهن بالجنة، وأمنيتي كانت أن يرزقني الله أولا بطفلتين".

تدحرج قطار ذاكرته وهو ينبش تحت الأنقاض إلى طفولتها، ويوم عرسها، وزغاريد النسوة بزواجها، وحنانها عليه، الذي يشبهه بنبع لا ينضب، ولا يجف.

تعمق العطار في بحثه عن أي أشلاء، في هذا المكان الذي أصيب كل من فيه، في حين استشهدت ابنته وأطفالها، وتصبب عرقًا، وغزاه الأمل وهو يصوب ضوء الكشاف على كل سنتيمتر مربع، للوصول إلى جثمانها.

قفز شريط الذكريات هذه المرة إلى شهر رمضان الذي شن الاحتلال في أواخره عدوانه الحالي على القطاع.

في الشهر الفضيل الذي ينتظره المسلمون على أحر من الجمر، ليتقربوا فيه إلى الله بصالح الأعمال، نافست لمياء أهلها في مسابقة لقراءة القرآن الكريم، وكانت تسبقهم في كل مرة.

لا يغيب عن العطار مشهد تهنئة ابنته بفوزها المنتظم بهذه المسابقة، فهي التي تقرأ يوميًّا خمسة أجزاء من القرآن، وتحافظ على الصلاة.

أنت جراح العطار، عندما تسلل إليه صوت ابنته وهي تبلغه بعد كل صلاة بدعائها أن تلقى الله شهيدة.

وذات يوم دار بينهما هذا الحوار:

- كلنا يابا بدنا نكون شهداء، لكن ايش سر إلحاحك بعد كل صلاة؟

- للموت سكرات يابا، وبتمنى أكون شهيدة عشان ما أحس بسكرات الموت، وعشان مقدساتنا تستحق.

كانت لمياء كريمة ليس لأنها جادت بنفسها في سبيل وطنها فقط، بل لأنها رسخت دومًا التعامل الحسن مع جيرانها، وشاركتهم طعامها.

آخر مرة اجتمع فيها الجد مع أحفاده وأمهم كانت أول أيام عيد الفطر الذي اشتعلت فيه نيران العدوان.

الخميس، 13 مايو/أيار كان اليوم الذي لم ينم إسلام وأميرة ومحمد ليلتهم فيه انتظارا لارتداء ملابس العيد، إصرارا من هؤلاء الأطفال على تحدي واقع الاحتلال، الذي امتد عدوانه على الفلسطينيين من بحر البلاد إلى نهرها، لا سيما في القدس المحتلة حيث المسجد الأقصى الذي انتهك المحتل ومستوطنوه حرمته، وحي الشيخ جراح المهدد أهله بالتهجير القسري، تزامنا مع الذكرى الـ٧٣ للنكبة.

مازحهم الجد حينها قائلا لهم: "فش معي عيدية، أعطوني العيدية تبعتكم"، فسارعوا بمد أيديهم بورقتين من فئة 20 شيقل، وقالوا له ببراءة وعفوية: "تفضل يا سيدي".

سقطت دموع من قلب العطار، في حين تتردد هذه الكلمات في مسمعه.

داعبهم جدهم وهم يرتدون ملابس العيد: "أواعيكم حلوين"، فأبلغوه بأنهم سيبقون على ارتدائها وينامون بها دون تبديلها.

لكن أحاسيس هؤلاء الأطفال كانت صادقة، لا سيما إسلام الذي حافظ على كل صلاة في المسجد، وتحدث عن الجنة مرارًا، وكان يقول: "بدي أجيب جوال كويس، وفيه نت مينقطعش في الجنة".

في ثلاجة الشهداء

30 دقيقة مرت على وجود العطار في المكان الذي يحمل ذكريات لن ينساها، وعندما أيقن أنه يبحث عن الأشلاء دون جدوى، توجه إلى المستشفى الإندونيسي، ثم إلى مستشفى كمال عدوان.

قبل وصوله إلى المبنى الذي سوته الطائرات الحربية بالأرض، كان زملاؤه في جهاز الدفاع المدني سبقوه إلى المكان، وغرسوا أيديهم وما يملكون من إمكانات شحيحة بسبب الحصار، بين الأنقاض.

ظروف غير اعتيادية تفرضها بشاعة العدوان على المدنيين وعلى عمل مقدمي الخدمات الصحية والإنقاذية في قطاع غزة.

ويتعمد الاحتلال استهداف وقطع الطرق المؤدية إلى مجمع الشفاء الطبي ومختلف المستشفيات وحرمان المرضى والجرحى من الوصول إلى الخدمات الصحية.

في المستشفى الإندونيسي فتش العطار عن جثمان ابنته وأطفالها، ثم فتش عنهم في ثلاجات الموتى في مستشفى كمال عدوان، حيث وقف مشدوهًا أمامها، عندما عثر على الجثامين، وتحسسها كأنما يربت على أكتافهم، كما كان يفعل بيده الحانية قبل ارتقائهم.

لم يثنه الوجع عن الإشادة بزملائه الذين قرؤوا الفاتحة على أرواح ابنته وأطفالها، قائلا: "مفش زيهم بعطائهم، احنا إمكاناتنا في القطاع محدودة (بفعل الاحتلال)، لكن عنا معنوية عالية عند الشباب، هم بيخافوش بالمرة، وبيحاولوا ينقذوا الناس، وبيصنعوا شيئًا من لا شيء".

ثم صب جام غضبه على الاحتلال الإسرائيلي، بصوت حاد: "ايش ذنبهم الأطفال؟ أبوهم مدرس ما اله غير في التعليم"، في حين يعجز ما يسمى المجتمع الدولي عن محاسبة (إسرائيل)، وتتعامل معها الولايات المتحدة على أنها "ابنتها المدللة".

لكنها عادة الاحتلال الذي يرمي إلى استهداف كل من وما هو فلسطيني.

وأمام هذه الفاجعة لا تقوى والدة لمياء على الحديث، بعد فقدها ابنتها الكبرى، التي جمعتها بها مشاعر ومحطات وذكريات ورباط الأمومة.

تحرى العطار عن تفاصيل الجريمة، وتوصل إلى أن الاحتلال استهدف المنزل بما لا يقل عن ثلاثة صواريخ، في حين هرعت ابنته فور سقوط الصاروخ الأول إلى الغرفة لإنقاذ أطفالها، لكنها لم تنجُ لا بنفسها ولا بهم من هول الدمار.

خلف قصف المنزل المكون من ثلاثة طوابق على رؤوس ساكنيه، نحو 15 إصابة بينهم أحد أنجال العطار، وزوج لمياء التي لم يسمع لها ولأطفالها صوت بعد الاستهداف ما أكد له ارتقاءهم.

مواقف "حارقة"

فوض العطار أمره إلى الله، لإيمانه بأن "هذا حكم الله، وهو نافذ".

لكن هذه ليست المرة الأولى التي يقتلع قلب العطار من مكانه، فهو على مدار عمله كان شاهدا على فظاعات جرائم الاحتلال، وإن كان قتل ابنته وأطفالها أقساها.

"مفش أصعب من المواقف اللي عشناها بسبب القصف الصهيوني، اللي بيترك ناس مقطعة".

ولن ينسى العطار مشهد سيارة قصفها الاحتلال يوما والتقى بخمسة شهداء، تحولوا إلى أشلاء يصعب تمييزها، وتشتعل فيها النيران.

وينبه العطار إلى أن الاحتلال يتعمد تكرار الاستهداف لإيقاع أقصى ضرر بالمدنيين، ومن ذلك أيضا قصف المنازل على رؤوس من فيها من الأطفال والنساء.

ويستدل من ذلك على عجز الاحتلال أمام نضال ومقاومة الشعب الفلسطيني له، مشيرا إلى أن القدس والأقصى، أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، ناشدت غزة، فلبت غزة النداء "وإذا احنا ما فدينا القدس بأرواحنا مين يفديها؟!".

حلت بالعطار جريمة متعددة الأبعاد، فقد اضطر وعائلته المكونة من 20 فردا إلى النزوح إلى إحدى المدارس، بفعل تضرر منزله.

ويقول: إن الاحتلال يلقي على الغزيين الفسفور الأبيض، ومواد تسبب صداعا شديدا وجفافا في الحلق ودموعا، مضيفا: "عندي أحفاد انخنقوا، وبصير أرجع (أتقيأ)".

وفي 13 مايو/أيار، نقلت جثامين لمواطنين إلى مستشفى الشفاء يرجح استشهادهم في إثر استنشاقهم غازات سامة.

ووفق إفادة المتحدث باسم وزارة الصحة د. أشرف القدرة، في 14 مايو/ أيار، فإن 43% من ضحايا العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة هم من الأطفال والنساء من جراء الاستهداف المتعمد لمنازل المواطنين الآمنين والأحياء السكنية المكتظة.

وحتى مساء 16 مايو/أيار كانت لمياء واحدة من 192 شهيدا من بينهم 58 طفلًا و34 سيدة، إلى جانب 1235 إصابة بجراح مختلفة، وفق "الصحة".

ويعمل والد لمياء في مجال الدفاع المدني منذ 14 عامًا، وتنقل في ميادين الإنقاذ البحري، والإطفاء، والإنقاذ، ولم يتخيل يومًا أنه لن يكون قادرًا على إنقاذ ابنته الكبرى أو حتى وداعها بفعل وحشية القصف.


 

اخبار ذات صلة