فلسطين أون لاين

كنتُ في عسقلان

الزمان: بضعة أيام، لا أستطيع تحديدها بدقة، من شهر آب، عام 2018، المكان: مركز التحقيق في سجن عسقلان الصهيوني.

في ذروة تحقيق متواصل طويل، وحالة إجهاد جسدي ونفسي، جاءني اثنان من ضباط جهاز الشاباك الصهيوني إلى غرفة التحقيق، وكانت مظاهر الغضب والاستفزاز بادية عليهما، قال أحدهما: "يبدو أننا بصدد خوض معركة مع غزة، يعني نحن مشغولون، والآن لا يوجد تحقيق"، ثم نفث كثيرًا من الشتائم لغزة وحماس، وبعدها تمت إعادتي إلى الزنزانة، ورغم أجواء الزنازين الخانقة إلا أن تلك اللحظة كانت فرصة قصيرة للتعافي جسديًا من إرهاق التحقيق، قبل أن أعود إليه بعد نحو ساعتين.

في اليوم التالي كان صوت صافرات الإنذار يتسلل إلى مسامعي داخل الزنزانة، فتهدأ الجلبة خارجها، فأقدر أن السجانين ربما نزلوا إلى الملاجئ، نتيجة سقوط صواريخ من غزة على المدينة، كان لصوت صافرات الإنذار أثر عجيب على نفسيتي، إذ كانت تنتشلني من ركام التعب والأسى وتحلّق بي عاليا، رغم أنه لم تكن لديّ أدنى فكرة عن تفاعلات الأحداث في الخارج، وظننتُ للحظات أن حربًا جديدة قد اندلعت فعلًا، ثم علمتُ لاحقًا أنها كانت جولة تصعيد محدودة، غير أنني ما زلتُ حتى الآن أحتفظ بمشاعر الابتهاج الفريدة تلك التي سكنتني وآنَسَت وحشتي حين كانت صفارات الإنذار تقتحم عليّ وحدتي، وتحيل ظلمة الزنزانة نهارا.

اليوم، بعد ثلاثة أعوام إلا قليلا، أستطيع، مثل كثيرين غيري من سكان الضفة الغربية، رؤية صواريخ غزة تحلّق في الآفاق الممتدة أمامنا، وهنا في منزلي غرب مدينة الخليل، تشخص في المدى البعيد أضواء مدينة عسقلان، حيث تنزل الصواريخ يوميًا عليها من غزة، ونرى بريقها في الأفق وهي صاعدة، ونسمع صداها حين تنفجر.

لا نحتاج هنا لسماع صافرات الإنذار لكي نتيقن من سقوط صواريخ على المدن الفلسطينية المحتلة، لأننا نراها مع كل تصريح لأبي عبيدة، ولأننا ندرك قبل كل ذلك أن فعل الرجال الصادقين يطابق أقوالهم، وحين تتردد في الجبال أصداء التكبيرات مشحونة بوميض الصواريخ ندرك أن مرحلة جديدة ترتسم معالمها في الأفق وتتسرب إلينا شيئًا فشيئًا لتخط على الأرض وفي الوعي معادلة جديدة غير قابلة للتفكك أو الذوبان.

إن غزة المكلومة والمحاصرة والنازفة استطاعت رغم كل الأوجاع التي تكتنزها أوصالها أن تظل مركز النور ومصدر العزاء لكل موجوع على امتداد فلسطين، بل ومحلّ اعتزاز وافتخار لدى كل الأحرار في الأمة والعالم، وإليها يشار بالبنان كلما أراد أحد استحضار مثال على قهر المستحيل، وانبعاث الإبداع، وسطوع الإرادة، وتنامي القوة المبصرة، والإنجاز في ظل الحصار.

عام 2011 حررتْ كتائب القسام أكثر من ألف فلسطيني من سجون الاحتلال، في عملية (وفاء الأحرار، منهم مئات من المحكومين بالمؤبدات، وفي حرب 2014 كان وعي جنود الكتائب في الميدان مستحضرًا ضرورة أسر جنود صهاينة لتحرير مزيد من الأسرى الفلسطينيين، وفعلوا ذلك رغم ضراوة نيران المعركة البرية التي كانت تٌصبّ فوق رؤوسهم، وبعد هذه التجربة الطويلة مع وفاء الرجال وصدقهم، ليس لدينا اليوم أدنى شكّ بأنهم سيظلون رواد المرحلة وصائغي معالمها، تمامًا مثل يقيننا بأن آلاف الأسرى الفلسطينيين يقتاتون الفرح الآن، مع كل أثير يحمل لهم صوت صافرات الإنذار، لأنها ليست فقط دليلًا على أن مشروع التحرر ماضٍ ومستمر، بل لأنها كذلك تفتح عليهم نوافذ أمل بقرب حريتهم، وزوال سجونهم.