ذلك الحنين لا ينطفئ، مهما مرت الأيام والسنون على سرد آبائه وأجداده قصص أيام البلاد، والقرى التي هجرتهم العصابات الصهيونية منها قسرًا، ليحرموا الأيام الجميلة التي قضوها برفقة أحبابهم وجيرانهم، خاصة في أيام شهر رمضان بمدينة يافا الجميلة التي كانت تحمل طقوسًا خاصة تمتد لأهالي قراها.
الفلسطيني محمد حاج أحمد قارب الخمسين عامًا من العمر، يقطن حاليًّا في مخيم بلاطة الواقع في مدينة نابلس، والجميل والمحزن في الأمر أن غالبية سكان المخيم تنحدر أصولهم من مدينة يافا وقراها المدمرة، فيستذكرون جميعًا الأيام الجميلة هناك، خاصة في شهر رمضان، لتتقلب المواجع عليهم.
يقول لصحيفة فلسطين: "كان الأجداد لا يتوانون لحظة واحدة عن سرد "الحواديت والحكايا" لأحفادهم، خاصة التي تتعلق بمظاهر الاحتفال بالمناسبات الدينية، وكان مركز المدينة يختلف اختلافًا كليًّا في ذلك تبعًا للعادات والتقاليد من المدن إلى القرى، لكون يافا كانت معقل الفن والثقافة والاقتصاد".
فكانت يافا قبل النكبة تضيف فنانين من كل الوطن العربي لإقامة احتفالات وأجواء خاصة، وفي رمضان كانت تشهد أجواء ثقافية أشبه بالتي نعيشها على الفضائيات الملتزمة.
ويضيف حاج أحمد: "شهر رمضان مميز، خاصة في مدينة يافا وقراها، وعندما يعلن ثبوت هلاله يضرب المدفع في المدينة فيسمعه أهلها وقراها، يعرفون أن غدًا أول أيام رمضان، وهو بمنزلة إعلان، وتنطلق التكبيرات من المساجد، ويخرج الناس ليهنئ بعضهم بعضًا".
ويستذكر أن والدته كان تحدثه عن تجهيزات رمضان التي لا تأتي في يوم وليلة، بل على مدار العام، إذ تعمل النسوة على تخزين وتجفيف بعض المأكولات التي قد تلزمهن هذا الشهر، كأن يطبخن الطماطم في موسمها ليصنعن منها معجون الطماطم.
ويقول حاج أحمد: "لا شيء يشبه ريحة البلاد، فاليوم الاعتماد على الأسواق، ومع بداية الشهر يعكف الناس على شراء العديد من المستلزمات".
وقد كان أطفال القرية يعملون على شراء الفوانيس كما يفعلون اليوم، وفي الغالب تكون صناعية منزلية بسيطة، ومع الانتهاء من الإفطار يخرج الأطفال بفوانيسهم للف على البيوت ليلًا، وينشدون: "حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو، حل الكيس وأعطينا بقشيش إن شاء الله تعيش يا حالو".
وأيضًا كانت طقوس شهر رمضان لدى الرجال مختلفة، ويبين حاج أحمد أنه بعد تناولهم طعام الإفطار كانوا يخرجون للتجمع في المباني الخاصة بتعليم الأطفال للاستماع إلى قصص الحكواتي، كقصة "عنترة" وقصة "حرب البسوس"، فيجلسون مندمجين، أصوات ضحكاتهم وهتافهم يسمعه من في البيوت.
ولم تغفل قريته يومًا عن صلة الرحم في رمضان التي هي واجب ديني قبل أن يكون أسريًّا، فما كانت تشهده يافا وقراها بعد الانتهاء من الإفطار حركة نشطة للناس في الحارات والشوارع، منهم من يقضي زيارة لأقارب ورحم، وآخرون يخرجون للتنزه والمشي.
ويتابع: "لم تشهد القرى ما كانت تشهده مدينة يافا من حراك في الحياة الثقافية والفنية، في القرى كانت الحياة فقيرة أكثر منها حياة مرفهة، ولكنها كانت جميلة بكل تفاصيلها الصغيرة".
ويطرح مثالًا لجو التكافل الاجتماعي الذي يجمع أهالي القرية معًا، فقبل أذان المغرب بقليل تجد الأطفال يتجولون بصحون طعام طازج وساخن للجيران، وعندما يفرغ الطبق من الطعام لم تعرف أمه من صاحب الطبق لكثرة تبادلها.
أما العيد فكان الأطفال ينتظرونه على أحر من الجمر للذهاب إلى يافا المدينة، وكأنهم ذاهبون إلى أوروبا للعب على الأراجيح وقضاء أوقات ممتعة هناك، وبعض العائلات كانت تذهب إلى أسواق يافا قبل العيد لشراء الملابس لأطفالها.
هذه الذكريات التي نقلت للحاج أحمد جعلته يحن إلى العودة لقريته، ويتمسك أكثر بحقه.