لا شك أن هناك بوناً شاسعاً بين كَرَمٍ وكَرَمْ، والعرب الأقحاح يقولون: إن أَنْتَ أكرمت الكريم مَلَكُتَهُ، وإن أَنْتَ أكرمت اللئيم تمردا!! ولكنَّ الكَرَمَ عند البعض من أبناء جلدتنا " العرب " تحوَّل إلى داءٍ مُزمن، فلا يَجِدون فكاكاً منه، ولا ينكصون عنه، خاصة إذا خُصَّ به " الجار " الأول موقعاً كان أو تفضيلاً. من هنا تداعى " العُربان " وبِسخاءٍ عَزَّ نظيره لِنَجدة الجَار والحليف بنيامين نتنياهو، لم لا، والحرائق تلتهم الأخضر واليابس في وطن يقول إنه ليس لنا، فتوالت العُروض من غير موقع وقد تداعى لها الحُلفاء شرقاً وغرباً وحتى من شِبه الجزيرة العربية بأركانها الأربعة.
وللحقيقة، فإن هذا الوفاء لم يكن وَليد اللحظة، فهو موروثٌ أباً عن جَدْ ولا مُكْنَةَ لنا في التغاضي عنه، وقد سَبَقنا إليه السَّلَف " الصالح " جلالةَ الملك السعودي حين تَمَنّى عام 1939 على " أشقائِه " قادة الثورة الفلسطينية التي اِندَلَعت عام 1936 وكادت تُطيحُ بالاحتلال البريطاني ومشروعه الإجرامي بإقامةِ وطن قومي لقطعان المستوطنين في فلسطين، وقد خَفَّ يُطالِبُهم بِوَقف كفاحهم نُصْرَةً للصديقة بريطانيا في حربها الضَّروس ضد القَتَلَة النازيين الألمان التي وَعَدتهم بإعطاء الشعب الفلسطيني حُقوقه كامِلَةً فور الظَفَر في هذه " المعركة المقدسة! "
كما طالب الملك عبد العزيز آل سعود بِمَدّ يَدِ المُساعدة للمملكةِ التي لا تَغْربُ عنها الشمس، وهكذا انتصرت بريطانيا وَمَدَّت لنا اللسان؟!
وحين بدأ طَيّ الشراع عام 1947 ميلادية، تحضيراً لمغادرة قوات بريطانيا العُظمى وقبل قيام دَوْلَة الصهاينة على أرضِ الرباط سنة 1948 ميلادية قام الأصدقاء الإنجليز بتأسيس جامعة الدول العربية وذلك حتى تتمكن جلالة الملكة بِأْمرِ أمين عام واحد لتلك الجامعة لتنفيذ الأوامر بدل إشغال السكرتاريا الملكية لساعات طوال وهي تدعو رؤساء الدول العربية جميعاً!
وتؤكد الوثائق، أن أول أمر أصدرته بريطانيا للجامعة العربية كان بعد إعلان ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء للعدو تأسيس كيانهم في 15 أيار 1948 وكان قرارها بدخول جيوش الدول العربية إلى فلسطين، ولكن ليس لمواجهة العصابات الصهيونية – كما يعتقد البعض حتى اليوم – وإنما لتنفيذ مُهمتين: سحب السلاح من المجاهدين الفلسطينيين، والمساعدة في حماية حدود التقسيم.
نجحت الجيوش العربية في فَرْض المُهمَّة الأولى، ولكنها مُنِيَتْ بِفَشَلٍ ذَريعٍ في الثانية، فَبَدلاً من تثبيت أركان الدولة المارقة على 56% من وطننا فلسطين وهو ما أعطاه قرار التقسيم الظالم وغير الشرعي عام 1947 ميلادية الذي يحمل الرقم 181 تمكَّنت العصابات الصهيونية من الهاغاناة والأراغون والشتيرن وإتسل وغيرها من السيطرة على 78.4% من الأرض بما في ذلك القسم الغربي من العاصمة القدس والتي كانت تشكل 1% وقد أُعُطِيَتْ مُسَمّى " الوضعية الخاصة " ولم تكن جزءاً من أيٍ من الدولتين الفلسطينية التي لم تَقُمْ حتى اليوم، وتلك الصهيونية التي قامت، وها هي تتوسع كل يوم بفعل الدعم العربي الصديق قديمه وجديده، والكرم الحاتمي للمساعدة التي يُقدّمها نزلاء مقاطعة الشؤم في رام الله التي لم تزل رغم كل إسنادهم مُحْتَلَّة.
لقد مَرّ هذا الكرَم وهذه المساعدة بمحطات عِدَّة وهي تتجلى اليوم صِراعاً أو حروباً أهليةً أو غزواً عسكرياً في سوريا والعراق واليمن ومصر والأردن وليبيا وكل من هذه الأدوات تقدم ما تستطيعه دونَ تَكَلُّف أو إرهاق!؟
أما ما جادَ به هذا العطاء السَخِي " العروبي " في نهاية السبعينيات من القرن الماضي فكان الصَدْمة التي أشعلت الضمير الشعبي من المحيط إلى الخليج حين زار الرئيس الأسبق لمصر أنور السادات فلسطين المحتلة وألقى كلمته في الكنيست والتي لم تنتهِ آثارها الكارثية ثم اغتياله عام 1981 في حادثة المنصَّة في القاهرة وقد فَرَّط بالوطن المصري وفلسطين مع اتفاقي كامب ديفيد عام 1978 ميلادية واتفاقية " السلام " عام 1979 ميلادية.
ومن الطريف، أنه ومع بدء الحرائق في دولة العدو الأسبوع الماضي، جاءت عناوين الصحف ونشرات الأخبار تقول: " إسرائيل تشتعل، والسُلْطة تتضامن ". كما أضافت نشرة " أحوال البلاد "، أن السلطة الفلسطينية لم تُفَوّت هذه الفرصة كي تُؤكد وقوفها الكامل مع دولة الاحتلال في مواجهة كارثة سلسلة الحرائق التي تضرب البلاد، واستعدادها لتقديم المساعدة من أجل إخماد الحرائق المُندَلِعَة!!
وقال مسؤول فلسطيني رسمي رفيع لم يجرؤ على ذكر صفته " أن السلطة الفلسطينية " توجَّهت بشكل رسمي إلى السلطات في تل أبيب واقترحت تقديم مساعدات وإرسال طواقم إطفاء من أجل المساعدة في إطفاء الحرائق!
كما قال الناطق باسم الدفاع المدني، نائل العَزَة " إننا ننتظر الموافقة وانتهاء التنسيق، ونستعد لإرسال أفراد من الدفاع الوطني ومعدات ووسائل لوجستية وطعام وإسعافات طبِّية إلى الأراضي المُحتلة!؟ "
أما اللواء يوسف ناصر، فلم يفته التنويه بكفاءة أطقم الاطفائيات التي تمتلك الأَهْلية والمقدرة الممتازة مشيراً إلى الدور الريادي والفعّال الذي قدمته الأطقم الفلسطينية في إخماد حريق الكرمل عام 2010، وأن ذلك يأتي في سياق الرسالة الإنسانية التي يحمُلها الجهاز وأشار مراقبون صهاينة في تعليقهم على هذه المساعدات " النبيلة " " إلى أن أفراد الدفاع المدني الفلسطينيين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ولهذا فقط جاءت مشاركة رئيسهم محمود عباس في جنازة رئيسنا السابق المرحوم شيمون بيريز!! "
وفي الوقت الذي تَسَوَّلَتْ فيه سُلْطة المقاطعة ومصر والأردن لتقديم خدماتها " للسيِّد المُحْتَل "، فقد أَرْسَلَتْ تل أبيب عديد المناشدات لِكُلٍّ من اليونان، وإيطاليا واليابان وكرواتيا وروسيا والولايات المتحدة وتركيا ولم تَزَل تتلقى المساعدات من الدول المذكورة وغيرها لتثبت أنها أَوْهَنَ من بيت العنكبوت.
سُلطة عباس تَفْتَتِحُ مؤتمر " حَرَكة فتح " السابع على وَقْع هذه الخدمات " الجليلة " للعدو المُحتل الذي يَرُدُّ بِصَفَعات تسارع بناءه لِآلاف الوِحْدات الاستيطانية في كامل الضفّة الفلسطينية المحتلة وشرق القدس، وعمليات القتل وحرق أشجار الزيتون وتدنيس أولى القبلتين على مدار الساعة. عباس يَعْتلي مسرح المؤتمر وهو يضحك ملء شدْقيه، فقد شكره سيده نتنياهو وقد أبدع " نَشامى " الدفاع المدني في حماية المستوطنين والمستوطنات، أعضاء المؤتمر يستقبلونه وقوفاً اعتزازاً بأفعاله المُنكرة، وهو الذي يُحافظ على امتيازاتهم وَفُتات جيوبهم وَخواءِ ضمائِرِهِم وهم يُصفِّقون بحرارة كادت تُشْعِلُ قاعة المؤتمر بحريق سيأتي اليوم الذي لن يُبقي ولن يَذَر!!
وتتداعى نماذج، هذه الأفعال المُنكرة التي يرتكبها الحَمْقى من زعماء النظام العربي الرسمي ومعهم أبناء جلدتنا الذين يتعاونون مع سلطات الاحتلال وهي مناسبة يمكن أن نقول فيها " إن للعبقرية حدودا، ولكن البلاهةَ والعمالة المنهجية دوماً لا تُخوم لها، ولهذا فإن من يقدمون الخدمات لِعَدوٍّ جبانٍ أو لمن لا قَدْرَ لَهُمْ يستحقون التحقير والملاحقة والمحاسبة.