فلسطين أون لاين

​هلَّ هلالك يا رمضان

...
غزة - نجلاء السكافي

من كان يدري أن صديقتين حميمتين ستضحيان بحياتهما من أجلِ طفل اسمه "رمضان" يناديهما معًا "ماما"؟، هكذا كانت حياتي بكل اختصار، فأولاهما حملتني في بطنها وأنجبتني بشوقٍ وانتظارٍ طويلين، وأُخراهما حملتني بين يديها وأسندتني على كتفيها وخطوت أولى خطواتي متشبثًا بكفيها، فكانتا معًا أجمل الأمهات إليّ.

حملت بي أمي "سماهر" فرحةً مستبشرة وهنًا على وهن، حتى جاء شهر رمضان لعام 2013، الذي كان الأصعب عليها حيث بدأت تظهر علامات الإرهاق على جسدها النحيل، بعضهم يخبرها أنه تعب الصِيام وبعضهم يؤولَّه لها بأنه "الوحام"، وهي تُكابر على اجهادها وتحتمل أوجاعها في سبيل رؤيتي حيًا أرزق أمام عينيها.

لكن تقادير الله شاءت أن تومض إشاراتٍ أكثر خطورة وأكبر وضوحًا وأنا جنينًا في شهري السابع ببطنها، حيث ذهبتِ بي يا أمي لبيت جدي ليتمكنوا من احتواءِ تعب حملك والقيام بواجباتهم تجاه اجهادكِ الشديد هذا، وما كانت إلا ساعاتٍ معدودة حتى بدأ الاصفرار المريب يعلو قسمات وجهك ويبث سمه في عينيكِ الجميلتين.

كان الأمر مقلقًا بعض الشيء لجدتي لكنها حاولت تجاوزه حتى جاءت لزيارتكِ ابنة عمك وصديقتك "رحاب" وسرعان ما لاحظت الاصفرار المريع فـ وشى لها قلبها بخوفٍ غير معهود قائلةً لجدتي: "ما الأمر؟ لماذا هي مُصفَّرة هكذا؟ يجب أن تسرعوا لنقلها للمستشفى هذه ليست علامات خير"، وما كان من جدتي إلا وأخذت بنصيحتها وأرسلت لأبي ثم ذهبنا معًا للمستشفى.

شخصَ الأطباء الحالة وأجروا كافة التحليلات؛ فجاءت النتائج تنذر بوقوع كارثةٍ حقيقة ستودي بحياتنا معًا؛ حيث أظهرت النتائج إصابتكِ المُفاجِئة بمرض "الكبد الوبائي"، أعلم مدى خوفك الشديد عليّ حينها وتوسلاتك الشديدة لإنقاذ حياتي كما كنتِ تقولين "أنقذوا طفلي فهو لا ذنب له".

من مستشفى الشفاء الطبي بغزة إلى مستشفى "عساف هروفيه" داخل فلسطين المحتلة، تم تحويلنا فورًا لإنقاذ ما أمكن إنقاذه إلا أن المرض كان قد استفحل في جسدكِ وتمثل خوف الأطباء الوحيد ومحاولاتهم الحثيثة في إخراجي للحياة قبل انتقال العدوى إليّ، فجاء القرار مباشرة بإجراء عملية ولادة قيصرية وخرجتُ مُطلقًا صرختي الأولى أهزُ بها أركان الحياة وأبكي فراقك.

ولمّا عادت بي جدتي من الداخل المحتل يتيمًا وحيدًا بعد وفاتك؛ وعمري لا يتجاوز تسعة أيام، تلقفَّتني يديَّ صديقتك رحاب تضمني إلى قلبها حزنًا وحبًا وشوقًا وهي التي تقول لي: "جاء خبر وفاة والدتك كالصاعقة على رؤوسنا، فلما طلبني أبيك للزواج وافقت خوفًا عليك وتعلقًا بك وحفظًا لأمانة صديقتي سماهر طالبةً من الله الأجر والمثوبة".

تخبرني أمي "رحاب" كيف كنتما صديقتين متلازمتين وفي مِثل أيام شهر رمضان المبارك هذه كنتما تصلا رحمكما معًا وتتزاوران بيوت الأقارب والأصدقاء يدًا بيد، وكيف كانت غالبًا ما تدق على شباكِ بيتك لتخبرك بموعد الذهاب لصلاة التراويح فتتجهزي مبتسمة وتترافقان الصلاة والطريق كتفًا إلى كتف.

تضحك أمي عندما أسمع أغاني رمضان المبارك "هل هلالك يا رمضان" وأتساءل: "أمي هذهِ لي؟" فتجيبني باسمةً: "نعم يا حبيبي رمضان هذا هو أنت"؛ وهي تدرك كيف أظن أن كل كلمة بها اسمي كُتبت إليّ وحدي كأنه لا يوجد رمضان دوني في العالم، لكني كذلك فعلاً لديها فلا يوجد رمضان غيري في قلبها وحياتها هي وأبي.

فرحها الشديد بي وبكل حركة جديدة أتعلمها وبكل كلمة أتعلم نطقها لا يُخفى أبدًا فهي التي كانت تقيم فرحًا كلما جربت نطق كلمة فكانت الأولى "ماما" جاء من شفتيّ مُصوبة نحو شغاف قلبها مباشرة، حتى علمتني المشي خطوة خطوة وهي لا تفتئ أن تحثني على ردِ السلام أو شكر الآخرين أو الاعتذار منهم إذا ما أخطأت يومًا أبدًا.

أكاد أسمع نبضات قلبها تتسارع حين أجري نحوها من أقصى الشارع مناديًا "ماما حبيبي ماما" معانقًا إياها ومنهالًا عليها بالقُبلات في مشهدٍ يثيرُ استغراب كل أبناء الحيّ، بينما أنا أتساءل فيما الغرابة إذا ما أغدقت هي عليّ بالأمومة فرددتها على قلبها ببنوةٍ كاملة غير منقوصة.

وقد لا ترينها وهي تزين البيت بالبالون وأصوات أناشيد الأفراح تصدح في الأرجاءِ نزولًا عند رغبتي بإقامة عرس، ولطالما جاء أبي فوجدنا نتراقص سويًا حتى لم يعد الاستغراب يعلو وجهه فهو يعلم كيف تلبي لي "ماما رحاب" كافة طلباتي وتحضر لي مجلات الصور من الحيوانات والطيور المتنوعة وتشتري القصص الجميلة كــــ سندريلا وبياض الثلج والكثير الكثير مما أُفضل وأُحب.

أمي سماهر التي اتخيلها الآن تسمع زقزقة عصافير الجنة؛ تُرى هل تصلكِ أصوات دعائي قبيل آذان المغرب بعد يومٍ من الصيام الطويل يقضيه أمي وأبي معًا؟، دعيني أخبرك حقيقة الأمر فكلما تسمع أمي أصوات الآذان نتشارك أنا وهي رفع أكفنا بالدعاء نحو السماء فأردد خلفها "يا ربي تجعل ماما سماهر بالفردوس الأعلى".