تشابكت يداه بيدي خطيبته بعد أن كان مشتبكا مع فيروس كورونا بين فر وكر، منذ بدايات ظهوره في قطاع غزة، لكنه ما لبث فور عقد قرانهما، أن شده الواجب المهني لاصطحابها إلى "المعترك" مجددا، حيث تعمل ممرضة في مستشفى غزة الأوروبي، المعروف باسم "الوبائيات".
بدأت معركة الطبيب عبد الحكيم شعث (30 عاما) ضد الفيروس، عندما تلقى اتصالا في ٢٩ أغسطس/آب بتكليفه ضمن خمسة أطباء باطنة ليكونوا ضمن المجموعة الأولى في مواجهة الجائحة بالمستشفى.
عند السابعة صباحا كان عبد الحكيم قد تجهز لشد الرحال إلى المستشفى بعد أن استودع أهله في رعاية الله. "كانت صدمة..."، هكذا يصف حاله حينئذ، راويا التفاصيل: "لم أعرف ماذا سأقول لأهلي؟ وأنا في طريقي للحجر أسبوعين داخل المستشفى (...) هذه أول جائحة تمر علي كطبيب أمارس المهنة".
قبل الإعلان رسميا عن تسجيل إصابات داخل المجتمع بفيروس كورونا، كان عبد الحكيم ومعه الجيش الأبيض يرقبون تطورات الفيروس في العالم، ويتساءلون عن الوقت الذي سيظهر فيه بغزة التي عملت بكل تصميم على تأخير وصوله. طلب من والديه الستينيين، إبلاغ إخوته وطمأنتهم.
لكن عبد الحكيم حاصرته المخاوف من ألا يعود إلى أهله بفعل الفيروس، ووسوست له نفسه: "يمكن الواحد ميرجعش لحياته ومستقبله". اعتاد الطبيب على علاج المرضى في مجالات الباطنة، لكنه وجد نفسه في ذلك التاريخ أمام مصابي كوفيد-١٩.
عمل الشاب على أخذ الاحتياطات ما أمكنه، حتى ارتدى زيا وقائيا شبهه بزي رجال الإطفاء والفضاء، لمنع الفيروس من التسلل إليه. اعترته الرهبة مع القلق والخوف في بدايات المواجهة.
"أتجه لفحص مريض ممكن يشكو لي من بطنه، فأضطر إلى لمسه، حتى مع وجود القفازات، فطرة الخوف موجودة لدى كل إنسان". تعاملت الطواقم الطبية -يواصل حديثه- مع المصابين وفق البروتوكولات العالمية.
كان عبد الحكيم يلجأ إلى "تقليب المرضى" لمعرفة على أي جانب يتحسن صحيا، بالإضافة إلى الأكسجين، ذاكرا أن المرضى في حينها كانوا يحتاجون نسبا عالية من الأكسجين.
وإضافة إلى ذلك، الأدوية التي تعطى لمنع حدوث التجلطات في الجسم، مع فحص الضغط والسكر لدى المريض، وتتبع أي مشاكل في القلب، أو الكبد، أو غيرها. في البدايات، تعامل الطبيب وزملاؤه مع ما يقارب ٤٠ حالة، ومع نهاية الأسبوع الأول وصل العدد إلى نحو ١٨٠، عدا عن مرضى كوفيد-١٩ في مدرسة مجاورة، لا تظهر عليهم أعراض.
وآنذاك -يقول عبد الحكيم- كان البعض ينظر إلى الإصابة بكورونا على أنها "وصمة".
وعند انتهاء الأسبوعين الذين حجر بهما في المستشفى، كان نحو ٤٠ مريضا بحاجة للاستمرار في العلاج بينما تعافى الآخرون.
وينصح الطبيب بالالتزام بإجراءات الوقاية، قائلا: "الكثيرون لم يكونوا يصدقون حقيقة كورونا إلا عندما وجد أحد أحبته يعاني من أعراض الفيروس، ومنهم من شاهد أعز أهله يموت أمام عينيه"، لاسيما مع وجود حالات نشطة مصابة بالفيروس تقدر بـ 13610.
خلال ١٤ يوما كان عبد الحكيم، يهاتف أهله أربع مرات يوميا، من شدة الشوق. ولما حان موعد عودته، شعر وكأنما كان في سفر. "حسيت الي أعوام طويلة مش شايفهم، مع إني كنت أشوفهم عن طريق الجوال". لكن كورونا فرقت بين الطبيب وأهله، ووقفت سدا منيعا أمام عناقهم، خوفا وحذرا.
ولن تمحو السنون والأيام من ذاكرته، ذلك الاتصال الذي باغته يوما، لإنقاذ مريضة بالسكر، وصل الأكسجين في الدم عندها إلى ٦٠% فجأة، إذ يؤثر كوفيد-١٩ والأمراض المزمنة جنبا إلى جنب.
هرع عبد الحكيم إليها برفقة التمريض، حتى استقرت حالتها. يتنهد عبد الحكيم، ثم يقول: "لم أشهد في البداية حالات وفاة بسبب كورونا، قبل أن يتغير الحال مع اشتداد الأزمة، حيث بتنا نشاهد وفيات يوميا".
"الطبيب.. مريض"
في علم الصحافة يقال إن الصحفي يمكن أن يتحول إلى حدث، وفي علم الطب يمكن أن يتحول الطبيب إلى مريض، وهو ما حصل مع عبد الحكيم في نهاية ديسمبر/كانون الأول حيث وقع ما لم يتمنه.
شعر بالتعب، والصداع، وارتفاع الحرارة، وتوجه إلى إجراء فحص كورونا، على أمل أن تكون النتيجة سلبية، لكنها كانت عكس ذلك. أصيب أيضا والداه، لكنهما شجعاه على مواصلة عمله.
في هذا الشهر حل رمضان، الذي عاش عبد الحكيم في أيامه الأولى متاعب المهنة، حيث يناوب مرتين أسبوعيا، بمعدل ٢٠ ساعة يوميا، وفق حديثه.
في ليلة الأول من رمضان حرم من تناول السحور، كما اضطره استدعاء عاجل من ذوي مريض لمغادرة مائدة إفطار كانت ستجمعه مع زملائه، قبل أن يبدأ، فاصطحب المياه وهرع إليه.
خبرة مكتسبة
يصف عبد الحكيم تجربة مواجهة كورونا بأنها "نوعية وفريدة" وتمكنه من نقل خبرته إلى الأجيال اللاحقة من الأطباء. لا يزال عبد الحكيم على رأس عمله في مستشفى غزة الأوروبي، لكن هذه ليست نهاية الحكاية.
بينما يخوض غمار المعركة، وجه عبد الحكيم أهله لطلب يد زميلته الممرضة دعاء الشاعر من ذويها، فوافقوا على ذلك.
وفي يوم كتب الكتاب، كان عبد الحكيم غادر لتوه المناوبة بعد ليلة عمل في المستشفى، فاستحم وبدل ملابسه، وتوجه عند الثانية عشر ظهرا برفقة أهله ودعاء وأهلها إلى المحكمة لعقد القران، ولما دقت عقارب الساعة الثانية مساء، كان موعد بدء مناوبتها في المستشفى قد بدأ، فاصطحبها بنفسها إلى هناك.
يصف عبد الحكيم ذلك بأنه "بداية جميلة جدا"، لاستكمال أداء دورها في المعركة التي يخوضانها برفقة زملائهما ضد كورونا.
ينظر عبد الحكيم إلى خطيبته دعاء على أنها "أكسجين" يمده بالنفس الطويل في الطريق إلى الخلاص من كورونا، كما أنه سيكون لها كذلك، حتى يتحقق الهدف المنشود.