بأمعائهم الخاوية يخوضون إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، في أوج معركتهم مع العطش يرفضون كأس الماء في سبيل بحثهم عن الكرامة والحرية، لا يجدون سوى أجسادهم لخوض هذه الملحمة، ينخرهم صوت الجوع لكنهم يربطون على بطونهم ويتحملون وطأة مرور الأيام وثقلها.
يخوض الأسير عماد سواركة (37 عامًا) من محافظة أريحا إضرابًا عن الطعام منذ ستة وثلاثين يومًا، إذ يعيش وضعًا صحيًّا قاسيًا، إلى جانب الأسير سائد أبو عبيد (41 عامًا) من جنين المضرب منذ (18) يومًا، والأسير مصعب الهور (33 عامًا) من الخليل المضرب منذ عشرة أيام، والصحفي علاء الريماوي منذ ثلاثة أيام، في حين علق الأسير مهند العزة (45 عامًا) من بيت لحم إضرابه الذي استمر عشرة أيام.
رحلة طويلة
سواركة الذي اعتقله الاحتلال عام 2004 وحكم عليه بالسجن تسع سنوات ونصفًا، أفرج عنه ضمن صفقة "وفاء الأحرار" بعدما أمضى قرابة سبع سنوات ونصف، ليعيد اعتقاله لمدة سنة واحدة عام 2018م، وأفرج عنه قبل أن تبدأ رحلة مع الاعتقالات الإدارية بدأت بإعادة أسره في 22 يوليو/ تموز 2020م واستمر أربعة أشهر إدارية، ثم جددها في المرة الثانية، وجددها للمرة الثالثة لكن سواركة هذه المرة رفض إعلان الانصياع لقرارات الاحتلال وأعلن التحدي مشهرًا سيف الإضراب في وجه "الاعتقال الإداري".
"كأهل لم نعرف عن عماد تفاصيل كثيرة حول وضعه الصحي، سوى ما ينقله لنا المحامي، لما يجري في سجن عسقلان معه، لكنه أضرب لأنه يعيش ظروف اعتقال سيئة في زنزانة عزل انفرادية لمدة أشهر طويلة، محروم من كل مقومات الحياة فيها بهدف النيل من عزيمته"، كلمات انفجرت من حنجرة شقيق الأسير سواركة عبر خط الهاتف في حديثه مع صحيفة "فلسطين".
بالنسبة لشقيق الأسير، فإن التفاعل الفلسطيني الرسمي مع قضية إضراب شقيقه "خجول"، معلقًا بلهجة عامية مصحوبة بنبرة صوت غاضبة: "بتعمل فعالية بجيك 100 شخص يشاركوا فيهم، بنشف ريقك وأنت بتتصل عليهم عشان يشاركوا رغم أنه هذي قضية أسرى".
ترقب وقلق
الأسير مهند العزة وبعد عشرة أيام من الإضراب بهدف نقله من العزل الانفرادي رضخ الاحتلال لمطلبه، شقيقه نزار يزيح في حديثه لصحيفة "فلسطين" الستار عن كواليس الإضراب وما عاشته العائلة: "كنا في غاية التوتر والقلق، لأن أمامك احتلالًا لئيمًا في تعامله مع الأسرى عامةً، وكنا في العشرة أيام منقطعين عنه إلا من خلال نادي الأسير أو المحامي".
اعتقل الاحتلال مهند عام 2010 وحكم بالسجن 13 عامًا خاض فيها ثلاثة إضرابات عن الطعام، أطولها استمر 21 يومًا، تنوعت أسبابها ودوافعها، ففي إضرابين طالب مهند بإخراجه من العزل الانفرادي، وفي إضراب ثالث احتج على إهماله الصحي وحاجته لإجراء عملية في الأمعاء فخاض إضرابًا عن الطعام لدفع الاحتلال للاستجابة لها.
"لا يمكن للاحتلال أن يوفر ظروف اعتقال آدمية إلا بعد أن يقدم الأسير جسده في سبيل ذلك ويخوض معركة إضراب وقد تطول هذه المدة"، سبقت صوت شقيقه لعنات ألقاها على الاحتلال.
اعتقالات طويلة
"احنا مش عارفين نزوجه حياته كلها اعتقالات" كلمات احتارت فيها شقيقة الأسير سائد أبو عبيد (42 عامًا) وصف معاناة شقيقها المضرب عن الطعام منذ عشرين يومًا في رحلته الطويلة مع سجون الاحتلال، رحلة أكلت سنوات عمره وغيبته عن العالم الخارجي، في وقت لم يمنح الاحتلال العائلة حتى فرصة لتزويج ابنها.
سائد الذي أمضى اثني عشر عامًا في سجون الاحتلال عبر سنوات متقطعة، وخمس سنوات في سجون السلطة عام 2005م، أعاد الاحتلال أسره في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 وأمضى أربعة أشهر إدارية جددها الاحتلال، فكان رده إعلان الإضراب المفتوح عن الطعام في زنزانته الانفرادية بسجن النقب.
هنا ستسمع صوت القهر من شقيقته "أم محمود" في حديثها مع صحيفة "فلسطين": "للأسف نحن كعائلة لا نملك باليد شيئًا، حتى أخباره لا تصل إلينا إلا من خلال الصليب الأحمر أو نادي الأسير ومحاميه.
تعلق بتهكم وحرقة قلب تلسع صوتها: "الاحتلال يطبق على حياته ولم يعطه فرصة حتى يتزوج، -للأسف– هناك تقصير محلي أيضا في التفاعل مع قضيته، ونحن في هذه الأيام الفضيلة نرقب أذان المغرب حتى نفطر، فكيف هؤلاء الأسرى الذين يمضون أيامًا طويلة وسط العزل والحر وظروف اعتقال سيئة وبعد عن الأهل".
سياسة إجرامية
من جانبه، عدَّ رئيس نادي الأسير، قدورة فارس، "الاعتقال الإداري" بأنها سياسة إجرامية تشكل جرحًا نازفًا للحركة الأسيرة، مشيرًا إلى أن استمرار هذه السياسة أدت إلى عدم توقف الإضرابات منذ عام 2011م، فردية وجماعية، وهذا يؤكد أنها لن تتوقف في المستقبل.
وقال فارس لصحيفة "فلسطين": إن "الاحتلال يوسع سياسة الاعتقال الإداري، ما يجعل الخطوات الفردية تحقق نتيجة للأسير المضرب الذي خاض هذه المعركة الصعبة، لكنها لم تحدث ما يوقف القانون، الذي يحتاج لجهد أكبر".
وشدد على أن الاعتقال الإداري ولكونه سياسة عامة للاحتلال، يجب أن يواجه بسياسة فلسطينية عامة يشارك بها الجميع، مبينًا أن الاعتقال الإدارية ليس قرارًا فرديًّا من ضابط وإنما هو سياسة دولة تعمل بموجبه ولا يمكن إسقاطه إلا بمواجهته من قبل الحركة الوطنية وعدم الركون له.
ولفت إلى أن الإضرابات الفردية أبقت القضية في مركز الاهتمام ولكن النتائج التي تحققت كانت بسيرة وفي حدود الشخص المضرب. وقال: "جربنا هذا الخيار عشر سنوات، والأسير يضرب لمئة يوم ويكون قد فعل ما عليه وأكثر، لكن يجب أن يكون هناك مقاطعة للمحاكم الإسرائيلية ويكون هناك مجموعة إجراءات تقود لخلق حالة تدفع بالاحتلال لمراجعة القانون".
وبين فارس أن الاحتلال يمارس عملية قمع ضد أي أسير مضرب في أول أيام الإضراب لاستنزاف معنوياته، وكسر إرادته لكنه لم ينجح في ذلك مع أي أسير، لافتًا إلى أن هناك 450 أسيرًا إداريًّا في سجون الاحتلال.