أثارَ فضولي سلوكه المتكرر فما إن ننتهي من صلاة المغرب في ساحتنا الضيقة، إلا وينتحي ناحية الزاوية الصغيرة المكشوفة على السماء والتي لا تتجاوز سُدس مساحة الفورة، إذ إن بقية المساحة يعلوها مبنى آخَر، يشخَصُ بِبَصره للأعلى ولا أدري أيُحدقُ في القضبان الحديدية التي تحول دون حرية التمتع بمشهد السماء أم في أعشاش الطيور المهجورة التي كانت شاهدةً على ولادة الحياة فيها؟!
توجهتُ إليهِ مُستفسرًا؛ إلامَ تُحدق يا أبا النور؟!
أجابَ بعد التفاتةٍ سريعة: عن نجمةٍ تكون عادة هناك ناحية الشرق حيثُ أشار بيده، واليوم لا أراها!
لعل بعض الغيوم قد حجبتها عن صفحة الأفق!
فسألتُهُ وكيف تراها وبالكاد يظهرُ لون السماء من كثرة طبقات الشبك المترامية بتقاطع فوق قضبان الحديد؟
أجابني بكثير من التركيز: وها قد جلبتُ معي النظارة كي تساعدني على رؤية أوضح.
انضممتُ إليه في رحلة استكشاف النجمة المحظية.
مرت الدقائق ونحن نُنَقلُ النظر بين الفتحات الصغيرة التي ترتسم لوحة السماء من خلفها حتى وجدتُها..
نجمة صغيرة الحجم وضوءُها ثابت، أخبرتُهُ أنني وجدتُها وأريتُهُ مكانها فلم يرَها، أوقفتُهُ مكاني فلم يرَها، عددتُ المربعات التي تفصلها عن الحاجزِ الحديدي وبزاوية الرؤية ذاتها علهُ يراها فلم يرَها.
انقضت دقائق الفورة الباقية سريعًا وبدأ الشباب في العودة إلى الغرف وللآن لم يرَها، انتهى الوقت وعاد دون أن يراها.
ذاك كان نائل البرغوثي أقدم أسير في العالم وتلك كانت نجمته.
في اليوم التالي تكرر ذاتُ الفعل وهذه المرة رآها، حمدتُ الله أن سيعودُ اليوم لغرفته دون حسرةِ احتجابها عنه، مَن يعرفُ نائل البرغوثي حقًّا لا يستغرِبُ فِعلًا كهذا.
إنسانٌ مِن عالمنا ارتسمت على ملامِحِ وجهه خريطة عمره الذي تجاوز الثالثة والستين، بعد أن أمضى أكثرَ مِن ثُلُثي حياته داخل السجون، يحفظُ السجون والمعتقلات وتاريخ الحركة الأسيرة ومحطاتها المختلفة، كما يحفظ أحدنا النشيد الوطني لبلادِه، يستعرض قوافل الأسرى ومواقفهم وذكرياتهم قديمها وحديثها كمَن يُعايِنُ مشهدًا يراهُ ويُبدعُ في وصفهِ لك.
يمتلكُ ذاكرةً قويةً لم تعبث بها أيادي النسيان أو تضعفها غيبة السنين، يكتنزُ بسمةً خجولة تزيدُهُ بهاءً ورِفعةً وعظمةً، وتأسِرُكَ بحُنوها فتزيدُك احترامًا لهُ وتعلقًا به، يغمرُكَ تواضُعُهُ وإن كنتَ في سن العشرين، فلا تلحظُ فرق العمر الذي يفرضُه تباعُد الأجيال.