كانت عائلة أبو ذياب تتوقع أن تقدم سلطات الاحتلال على هدم إحدى بنايات العائلة الواقعة في حي "بطن الهوى" ببلدة سلوان بالقدس المحتلة، بعد صدور أمر قضائي إسرائيلي في 24 مارس/ آذار الماضي يقضي بهدمها، لكن ما جرى سبَّب ذهولًا للجميع.
أفاقت العائلة في ليلة الثامن من إبريل/ نيسان الجاري على أصوات ضجيج قطعان المستوطنين التي توافدت بالمئات بأصوات صاخبة ما إن طرقت عقارب الساعة الحادية فجرًا، ورفعت علم دولة الاحتلال فوق المنزل الذي يضم ثماني شقق.
هذ الواقع جعل أفراد العائلة ينظرون مشدوهين وهم يحبسون أنفاسهم لما يرون، لكون ما تشاهده يخالف ما كانت تستعد له، فماذا غير هذه النهاية؟
تكشف صحيفة "فلسطين" عن عملية خداع محكمة وقعت فيها عائلة أبو ذياب لعبت فيها محاكم الاحتلال وبلديته بالقدس وبعض المحامين والمهندسين دورًا في هذا الخداع، في حين بقيت "الأيدي الخفية" في هذه السلسلة من حيث الممول وأصحاب النفوذ غير معلومين.
بعد تقصٍ تمكنت "فلسطين" من الحصول على أوراق ووثائق تظهر قيام الاحتلال بإصدار أوامر هدم ووقف البناء للشقتين العلويتين في عمارة أبو ذياب، كان مصطفى أبو ذياب يمتلك هاتين الشقتين فقط، علمًا أنه لم يتملك بقية شقق العمارة حسب العائلة التي تعود ملكيتها لخاله المتوفى.
تظهر تلك الوثائق قرارات أصدرها الاحتلال قبل أسبوعين لتنفيذ أوامر الهدم، كعملية تغطية وتمويه تشاركت فيها كل أذرع الاحتلال لإتمام عملية تسريب العمارة.
هدمٌ تحوَّل تسريبًا
بداية القصة، نضال أبو ذياب وهو ابن عم مصطفى يعبر عن ذهول العائلة لما جرى، قائلًا: "نحن كنا مطلعين على الأمر من جانب أن شرطة الاحتلال التي أصدرت أمر هدم للطبقتين العلويتين فوق العقار، والشقتان تطلان على منطقة سلوان، وكانت شرطة الاحتلال تأتينا وتهددنا بعدم إثارة الضجيج في أثناء عملية الهدم، وأن الهدم يجب أن يتم قبل نهاية يونيو/ حزيران القادم".
ومع أن العائلة تمتلك أوراق ملكية تثبت أن الطبقة الأرضية ملكية لشخص آخر في العائلة، وأن كل العقار ترجع ملكيته لخال مصطفى المتوفى، إلا أنها الآن وبعد الإعلان عن تسريبه تواجه مشكلة تورطت فيها.
يقول نضال عن ذلك: "الإشكالية التي نواجهها الآن أنه بعد قرار الهدم، حضر بعض المهندسين والمحامين الذين ترافعوا لمصطفى في المحاكم الإسرائيلية، وضغطوا على العائلة وأقنعونا أن العقار لا بد أن يكون كاملًا باسم شخص معين حتى يقوم بإجراءات الحصول على رخصة ويتم وقف الهدم، وعليه وقعت العائلة أن العقار ملك لمصطفى وتم الاستئناف وحصل أحد المحامين على ستين ألف شيقل نظير إجراءات قانونية قام بها".
يتهكم على ما وقعت به العائلة بلهجة عامية: "كنا بنفكر انه الشرطة بتيجي تهدم وكان مصطفى ينقل العفش على هدا الأساس، لكن صدمنا بانه قطعان المستوطنين احتلت البيت"، متسائلًا: هل البيع من يأس مصطفى من موضوع البناء، أو بسبب تلاعب بلدية الاحتلال بموضوع الترخيص لكونها ماطلت في الملف لسبع سنوات؟
عن مكان مصطفى، أجاب ابن عمه: "حسب كلام إخوته لديه شقق بمنطقة كفر عقب يتواجد فيها، لكنه يقول إنه بريء وأنه باعها لشخص ونحن بدورنا تواصلنا مع ذلك الشخص الذي أفاد أنه باعها لـ"ع، ر"، وهذا الأخير نفى أنه اشتراها، معتبرًا أن براءة العائلة من مصطفى أقل شيء تقدمه، لأن البيع بالقدس معروف بأنه يجب أن يتم بدقة وبمراجعة والتأكد من الأشخاص.
يعرب عن حسرته على ما حل بحارته: "يا للأسف بعدما كانت حارتنا غير مخترقة، الآن تملؤها كميات كبيرة من الشرطة والمستوطنين".
هذه التسريبات أشعلت نار الاتهامات بين شخصيات بالسلطة الفلسطينية، ففي وقت اتهمت السلطة الفلسطينية أحد مرشحي قائمة التيار الإصلاحي ويدعى سري نسيبة بذلك، قال نسيبة: "إن جهاز المخابرات الفلسطينية يلفق التهم للشخصيات المعارضة للسلطة بموضوع التسريب، في وقت يمتنع عن نشر نتائج التسريبات الكبيرة التي حدثت عام 2014م، لتورط شخصيات كبيرة بالسلطة".
اختيار مدروس
لا يتم اختيار العقارات بطريقة عشوائية حسب إفادة الباحث بشؤون القدس ناصر الهدمي لصحيفة "فلسطين"، وإنما وفق خطط مدروسة بدقة، من أجل الوصول للعقارات تتشارك في اختيارها عدة عوامل، أولها أهمية الموقع، والثاني وجود ثغرة ونقطة ضعف يمكن الدخول إليها، ووجود شخص يستطيع التفريط ولديه مشكلات مالية أو اجتماعية أو أخلاقية.
ويوضح الهدمي أن الاحتلال استهدف سلوان عبر نشر المخدرات والجهل، ففيها محطات معروفة لبيع المخدرات، وأوجد بيئة خصبة يمكن أن يستغلها من أجل الاستيلاء على البيوت.
في بلدة سلوان يعيش قرابة 60 ألف مقدسي مقابل 2750 مستوطنا موزعين على 76 بؤرة استيطانية في جميع أحياء البلدية.
وتشير تقديرات حقوقية فلسطينية، إلى أن 60% من البؤر الاستيطانية في البلدة تم الاستيلاء عليها قسرا أو استنادا لما يعرف بقانون أملاك الغائبين، أو تزوير الوثائق والتلاعب بها، و40% منها سرب من خلال فلسطينيين وسماسرة.
وتكمن الخصوصية لبلدة سلوان بكونها تقع جنوب المسجد الأقصى والتي تدعي الجماعات اليهودية المتطرفة ان لها خصوصية دينية في التوراة بما يسمونه "الحوض المقدس"، وهذا ما يفسر الهجمة الشرسة التي تتعرض لها البلدة من قبل الاحتلال والمستوطنين، وتعتبر البلدة خاصرة البلدة القديمة الحيوية.
ثلاثة اتجاهات للاستيلاء
عبر ثلاثة اتجاهات تتم عملية معقدة غالبيتها تحدث وراء الكواليس مع معلومات مضللة للمحيطين بالدوائر العربية المستهدفة من عملية البيع والتسريب، تتم المرحلة الأولى بتحديد أولئك الذين يعانون ضائقة مالية كبيرة أو يتعاطون المخدرات لتبدأ عملية غسل دماغ لهم، وممارسة الضغوط الإسرائيلية من خلال الضرائب أو منع الترخيص أو التضييق.
غالبا يتم التفاوض على كل شيء دون علم أحد بواسطة بعض المحامين المتواطئين بالأمر، وتتم هذه الطريقة من خلال التعاقد مع عدد من السماسرة الفلسطينيين المرتبطين أصلا بأجهزة الاحتلال الاستخبارية، لتسهيل عملية الاستيلاء على العقارات في المدينة، دون التعرض لأي متطلبات قانونية من قبل أصحاب تلك العقارات الذين يتم إيهامهم بأن المشتري مستثمر فلسطيني وتقديم أسماء شركات وهمية يمتلكها رجال أعمال وهميون.
والطريقة الثانية تتم من خلال تزوير أوراق الملكية واستخدام الإرهاب، أو إعلان العقار أملاك غائبين وذلك باستئجار سماسرة عرب ليشهدوا زورا أن مالكي العقار ليسوا في القدس، بالتالي يقوم "الصندوق القومي" الإسرائيلي بنقل ملكيته للجمعيات الاستيطانية.
وخلال السنوات الثماني عشر الماضية، تكشف العديد من عمليات التسريب التي كان أبطالها شخصيات متنفذة بالسلطة الفلسطينية أو رجال أعمال على علاقة مع شخصيات وازنة في الضفة الغربية أو القدس المحتلتين أو الأراضي المحتلة منذ عام 1948م.
وقد دخلت مؤسسات عربية خاصة من دول خليجية، بحسب عضو لجنة أهالي حي سلوان فخري أبو دياب، على طريق شراء منازل بحجة وجود وفود عربية ستأتي للقدس وبحاجة لاستضافة، وهي حيلة قد تنطلي على البعض، ورغم ذلك إلا أن المنازل التي جرى تسريبها لا تزيد على 1% لأن معظم أهل القدس يعون خطورة الأمر.
يشير أبو دياب لصحيفة "فلسطين" إلى أنه في منطقة "سلوان" هناك 76 بؤرة استيطانية 40 بؤرة منها جرى تسريبها وبيعها بشكل مباشر وغير مباشر.
ومع ما قاله أبو دياب عن امتلاكه دلائل لوجود تحويلات مالية بنكية عربية مباشرة لبنوك فلسطينية، إلا أن خليل التفكجي مدير وحدة الخرائط بمؤسسة بيت الشرق بالقدس يعارض ذلك، "لكون البنوك الإسرائيلية تمتنع عن تسلم أي حوالات من دول عربية وكذلك البنوك الفلسطينية، لذا تتم الحوالات لبنوك عربية بدول أخرى ثم تدخل لفلسطين".
عام 2014م وقعت كُبرى عمليات التسريب في منطقة "وادي الربابة" بالقدس بتسريب قرابة 36 شقة سكنية في عدة عمارات، وكذلك 11 شقة في بلدة "سلوان"، وصلت الأموال حسب إفادة المحامي خالد زبارقة لصحيفة "فلسطين" لشخص يدعى "فريد حاج يحيى" وقام بدفعها للذين باعوا منازلهم.
لا يعفي أبو دياب ما وصفهم بـ"المتنفذين" وأيادٍ خفية بالسلطة الفلسطينية من علاقتهم بعمليات التسريب تلك، لافتا إلى أنه عندما أقامت السلطة لجان تحقيق عن الممتلكات التي جرى تسريبها لم يُسمح بإقامة لجان محايدة.
"السلطة شكلت لجانًا.. وين وصلت؟" سؤال يطرحه هذه المرة التفكجي، متهمًا السلطة بأنها كانت مشتركة في عملية التسريب التي حدثت عام 2014م، من خلال أحد رجالاتها بجهاز المخابرات العامة، مردفا بسخط: "يومها نشرنا الأدلة وقمنا بفضحهم".
لكن عمليات التسريب الأخيرة، دفعت بأهالي سلوان وفق أبو دياب لإيجاد خطوات عملية لمنع التسريب وإيجاد حلول قبل أن تصل إلى أيدي السماسرة والجمعيات الاستيطانية لأهل القدس، من خلال إيجاد مستثمرين يتحلون بـ"الضمير والحس الوطني" لشراء المنازل لمن يريد البيع، وكذلك عبر سياسة إسناد للعائلات.
بيع بمبالغ زهيدة
ورغم محاولة الجمعيات الاستيطانية إشاعة أنهم يدفعون مبالغ وملايين كبيرة إزاء شراء المنازل من المقدسيين إلا أن الحقيقة التي يمتلكها أبو دياب والتفكجي غير ذلك، يقول أبو دياب إن الجمعيات تدفع ضعف سعر المنزل الحقيقي، وفي بعض الحالات لم يحصل البائع على أكثر من عشرين ألف شيقل.
إذ إنه بمجرد بيع الشخص لمنزله والتوقيع على البيع، وبعد تسلمه جزءًا بسيطًا من المبلغ المتفق عليه، يتم تهديده بفضحه مجتمعيًّا، وبالأغلب يتم الاحتيال عليهم في هذه الأمور.
أحد التحقيقات التي أشرف عليها خليل التفكجي، أظهرت قيام أحد المقدسيين ببيع منزله بألفي دينار، وآخر باثني عشر ألف دينار، وثالث قام ببيع بيته المفروش بسبعين ألف دولار في منطقة سلوان في تسعينيات القرن الماضي، معتقدًا أن "أرقام البيع الحالية لم تختلف عما سبق".
يقول التفكجي لصحيفة "فلسطين": إن الاحتلال رفع العلم الإسرائيلي على 40 بؤرة بعد أن جرى تسريبها، وهي مختلفة في عدد الشقق والمساحة من منطقة لأخرى، إلا أن هذه البؤر التي جرى السيطرة عليها خلال خمسين عامًا لا تعتبر مكسبًا إسرائيليًّا على الرغم من أن الاحتلال يعتمد على سياسة "طويلة الأمد" تستهدف ترويج المخدرات بين الشباب ليكون في كل عائلة نقطة ضعف يمكن الولوج إليها.
أما المحامي خالد زبارقة فيعتقد في حديثه لصحيفة "فلسطين" أن هناك تنظيمًا سريًّا يعمل على مدار الساعة يسعى للسيطرة على البيوت في البلدة القديمة وسلوان، وهذا التنظيم يضم جمعيات استيطانية ومنظمات صهيونية وشخصيات فلسطينية متنفذة وأنظمة عربية.
ويطرح زبارقة تساؤلات حول صمت السلطة التي تمتلك أجهزة أمنية ومعلومات عن التسريب وأقامت لجان تحقيق ولم تنشر نتائجها للرأي العام، وكذلك عن حركة المال قبل أن تصل إلى الطرف الأخير صاحب العقار ومن هم المحامون الموجودون بالصورة، والذي نشر منهم مؤخرًا اسم المحامي "حسين أيوب".
يدلل على كلامه، أن صمت السلطة على عمليات التسريب التي جرت عام 2014 على يد خالد العطاري، وقبل عامين في عقبة "درويش" بالبلدة القديمة، جرأت الآخرين على الاستمرار في المزيد من العمليات، مستغربًا في الوقت ذاته صمت السلطة على عمليات التسريب التي تطبخ حاليًّا في الخفاء.
وكانت عمليات تسريب أملاك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس من أخطر العمليات وأكثرها شراسة، والتي تورط فيها راعي الكنيسة البطريرك اليوناني ثيوفليوس، إذ كانت عمليات التسريب من خلال إقدام البطريرك على بيع هذه الأملاك بشكل مباشر للاحتلال، والتي بلغت قيمتها حتى مطلع عام 2018م أكثر من 430 مليون دولار.