من بين 36 قائمة انتخابية، لانتخابات المجلس التشريعي المفترض إجراؤها في 22 أيار/ مايو، انقسمت قوائم حركة فتح إلى ثلاث قوائم، بالإضافة إلى انتشار العديد من كوادرها في قوائم تصف نفسها بالمستقلة، في حين قدمت حماس قائمة واحدة متماسكة، وإن كان بعض أفرادها قد يشاركون في قوائم مستقلة، وهو أمر من شأنه أن يدعو للتأمل، من هذه الحيثية، بغض النظر عن النقاش حول جدوى هذه الانتخابات وصوابيتها، أو حول آثار هذا المشهد على نتائج الانتخابات وحظوظ الكتل.
حظيت حركة فتح بحرية الحركة والعمل في الضفة الغربية، فهي الحركة التي تقود السلطة، التي وجهت كل قدراتها من بعد الانقسام لفرض مشروع سياسي، سعى إلى تحييد الجماهير عن الاهتمام بالشأن العام، وكان من صوره العمل الحثيث والمستمر على تفكيك البنى التنظيمية لحركة حماس في الضفة الغربية، بذريعة الانقسام. وبالإضافة إلى ذلك، فإن حماس حركة محظورة في قوانين الاحتلال، الحاكم الحقيقي لكامل مجال الضفة الغربية. فهي، والحالة هذه، عانت طويلًا من حملة استهداف مزدوج، ترك نتائج عميقة على حضورها التنظيمي وقدرتها على الحركة.
بالرغم من ذلك، تمكنت حركة حماس من تشكيل قائمتها بلا أي حساسيات داخلية تذكر، ولا في أي مستوى من مستوياتها، ولا في أي منطقة من مناطق السلطة الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. صحيح أن جمهورًا واسعًا في الحركة بدا زاهدًا في هذه الانتخابات، ونخبة في أوساطها قدمت نقدًا مركزًا لهذا المسار لأسباب موضوعية وتاريخية، الأمر الذي يقطع الطريق على أي منافسة داخلية جادة، إلا أن الأمر في جوهره أبعد من ذلك.
تملك حركة حماس ظروفًا مناسبة للعمل التنظيمي داخل قطاع غزة، مما يتيح لها العمل العلني والهادئ في المستويات غير العسكرية، بينما تكاد تستوي في الضفة الغربية كل قطاعات العمل في الحركة. فمجرد الانتماء للحركة أو تقديم خدمات لها يكفي للاعتقال، ويتضاعف هذا الاحتمال بحسب مستوى النشاط وموقع المسؤولية، وهو أمر يتعارض بالضرورة مع متطلبات العمل العام، الذي يحتاج قدرًا كبيرًا من العلنية والأريحية وحرية التحرك. ومع ذلك كله، تمكنت حماس من اختيار أعضاء قائمتها في الضفة الغربية، دون أن ينعكس ذلك في أي شكل من "الحَرَد" الداخلي، دون أن يعني ذلك مثالية الآلية والخيارات، للظروف سالفة الذكر.
قبل ذلك كانت حماس قد أجرت انتخاباتها الداخلية في قطاع غزة، في أجواء شفافة وشبه علنية، شهدت منافسة واضحة بين رمزين قياديين فيها، على نحو لم يمس بنية الحركة وتماسكها. وهي في الوقت الجاري تجري انتخاباتها الداخلية في كل من الضفة الغربية وخارج فلسطين، بطرق وأدوات وآليات تناسب الظروف الخاصة لهذه المواقع الجغرافية، على الطريق لانتخاب الهيئات التنفيذية والشورية وتشكيل الأجهزة التنظيمية العامة.
الرابط بين تشكيل حماس قائمة واحدة بلا حساسيات مُلاحَظة، شخصية أو جهوية، وبين انتخاباتها الداخلية، هو قدرتها على الحفاظ على تماسكها التنظيمي، في ظروف انفصال جغرافي، ببيئات عمل متباينة، بعضها قاسٍ للغاية، وذلك مقابل ظاهرة الانشقاق والاختلاف التاريخية في فتح، مع ملاحظة أن الظروف الموضوعية تخدم فتح بالضرورة، لكونها تحكم ساحة الضفة الغربية، ولا تتعرض للاستهداف الأمني والحصار الإقليمي والدولي الذي تتعرض له حماس.
ظاهرة الانشقاق في فتح تاريخية، منذ تأسيس الحركة، وإن حظيت بعض الانشقاقات بالصدى الأكبر، كما في حركة فتح- الانتفاضة عام 1983، وإذا كانت طبيعة الحركة، وشيوع علاقات الاستزلام وشبكات الزبائنية فيها منذ تأسيسها، تدفع المصالح الشخصية إلى السطح، فإنها تاريخيًا ضمت بالفعل تيارات فكرية وسياسية متباينة، مما كان يُسند بعض الخلافات في صفوفها إلى الاختلاف الأيديولوجي أو السياسي، أو يغطيه بذلك. لكن الاختلافات التي عصفت بها أخيرًا شخصية صرفة، وفي أحسن أحوالها تنادي بالإصلاح التنظيمي، لتخليص الحركة من حالة الهيمنة المركزية السلطوية عليها، وهي الحالة التي تقصي العديد من المصالح والشخصيات ومراكز النفوذ، دون أن يطرح المخالفون للخط الرسمي للحركة مقاربات سياسية جديدة تعيد النظر في المسار السياسي الراهن.
يمكن القول إن محمد دحلان وحده الذي يحاول أن يقدم نقدًا لهذا المسار، لكن يصعب التعامل مع هذا النقد من غير الوجهة الدعائية الصرفة. فالرجل أحد مؤسسي هذا المسار، وأحد قادته لفترة طويلة، وقد تمحورت ظروف الانقسام في لحظة ما حول سياساته وخطاباته. وتضاف إلى ذلك، طبيعة ارتباطاته الإقليمية، التي تجعل من توجهاته الباطنة أكثر خطر من توجهات القيادة الرسمية لفتح الآن.
إن تصفية الحركة بوصفها حركة تحرر وطني، وتكثيفها حزبًا لسلطة محكومة بإكراهات الاحتلال، ألغى نهائيًا التباينات البرامجية والسياسية في الحركة، وقضى على تنوع التيارات فيها، لصالح تعاظم شبكات الزبائنية فيها، وبما يركز الصراعات داخل الحركة على النفوذ والحصص في السلطة، وهو أمر بالغ الخطر على المستوى الوطني.
على خلاف فتح، ما تزال الأيديولوجيا الفكرية والسياسية تحظى بقدر من الحضور في أوساط حركة حماس، وبالدرجة التي تُشكل فيها لُحمة الحركة وسَداها. وهنا يمكن القول إن حفاظ الحركة، إلى حد كبير، على خطها الذي تأسست لأجله واستمرت فيه، واحد من أهم أسباب قدرتها على الاستمرار حركة واحدة متماسكة، قادرة على حل تناقضاتها الداخلية بما يقطع الطريق على ممكنات شق الحركة. فحتى كل ما يمكن أن ينشأ من نقد أو سجال أو مشاعر وانطباعات، على هوامش الظروف المتباينة بين مواقع الحركة الجغرافية، وإدارتها لقطاع غزة، وظهور نخب طبقية لاعتبارات قيادية أو لاعتبارات المشاركة في السلطة، فإن ذلك كله ظل دون قوة أيديولوجيا الحركة ومسارها السياسي.
على ذكر الأيديولوجيا، وإلى جانب النمط اللينيني المرتكز إلى ما يُسمى المركزية الديمقراطية، الذي تتبناه أكثر الأحزاب الأيديولوجية، إذ تُمنح القواعد التنظيمية حق الانتخاب مقابل التزامها الكامل بقرارات القيادة، فإن الوعي التربوي السائد في الأوساط الحركية الإسلامية، ولا سيما في أوساطها القاعدية الدنيا والوسطى، يميل على نحو كاسح إلى طمس الطموحات الشخصية، والتنصل منها، وإنكار وجودها فيما هو أعلى من مستويات. ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى القواعد التربوية السائدة في الأحزاب الأيديولوجية، أي تلك التي تُذوب الفرد في الجماعة، والتي تأخذ بعدًا أوسع في حالات الإسلاميين، لقدرتهم على إعادة صياغة هذا المفهوم دينيًا، بالتأكيد على إخلاص العمل لله، ثم لنوع مماهاة يتولد بين الجماعة والإسلام، ومن ثم القيادة والنبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا قد يلتبس المثال، والشاهد، والدليل، بالإحساس بالتطابق والتماثل مع الجماعة النبوية الأولى.
إلا أن الحفاظ على الخط والمسار هو أكثر ما يوحد حماس، وبما يجددُ الوعيَ التربويَ السائد فيها، بالرغم من صعوبة ممارسة العملية التربوية، سواء للأسباب الأمنية في الضفة، أو لغلبة الهم السياسي في الحركة. وإذا كان الحفاظ على هذا الخط يرجع الفضل فيه لجميع العناصر في كل مستوياتها التنظيمية، فإن استمرار ذلك الوعي التربوي يبدو أكثر التصاقًا بالقواعد التنظيمية.
إنه بقدر ما تبدو هذه الحالة مفيدة، فإنها تحتاج إلى إعادة نظر، لتثبيت الأصل وهو الخط والمسار، ومراجعة طريقة الإدارة التي تستند للمركزية الديمقراطية، بتمكين القواعد من المساهمة في تحديد الخيارات السياسية، وتجديد أساليب العمل التنظيمي، وبما يقطع الطريق على أي استبداد كامن، ولأن المركزية الديمقراطية قد تفضي إلى عكس ما يراد منها، كما هو في الشواهد التاريخية، وكذا إعادة النظر في الوعي التربوي السائد في بعض أبعاده وجوانبه، ولا سيما تلك الطوباوية منها، والمتناقضة بين التصور والواقع، وبما قد تنطوي عليه من تعظيم للجماعة على حساب الفكرة والمبدأ.
هذه المراجعة من أجل إعادة الدخول في هذا العصر، بتحولاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.