سأقولُ اليومَ لكلِ من يُعيبونَ فينا فشلنا في احتواءِ وتطويقِ دموعنا، بذريعةِ أننا صحفيون يجبَ ألا نتأثرْ، وإن تأثرنا علينا أن نُخفيَ إنسانيتنا؛ لئلا يتأثرَ بها المستقبل... سأقولُ لهم "وخلقَ الإنسانُ ضعيفا "فلا مفرّ لأقوى أقوياء الدنيا أن تعتريه لحظة ضعف، تفضحُ زورَ قوته، وتكشفُ وهنه...!
تجرعتُ الوهنَ وأنا أُشيعها في المقبرة، ألتفتُ إليها، ها هم أنزلوها؛ لتحيا حياة البرزخ، يا لدموعي وأنا بها أرزح، يا للقلبِ حينَ يُجرحْ، للمرةِ الأولى أدقق في (هادم اللذات) أعرفُ كم أن الموتَ يُوجعُ الأحياء أكثر، يقبرهم في أحزانهم في اليومِ ألف مرةٍ وأكثر.!
قُبرتْ أم فارس بارود، والدة عميد الأسرى في غزة، وفي قلبي مشاعرَ أقوى من أن أكتبها، فلتسامحني "ستي" العجوز إن قصرتُ في وصلها يومًا، إن أزعجني تأثري بحالها، فقبل مماتها توقفتُ عن زيارتها؛ لأحافظَ على سلامتي النفسية، لكنَّ رحيلها فجرَ انتفاضةً بداخلي، جعلني أقفُ أمام أدقِ تفاصيل عيشها، كان ابنها يعيشُ في زنزانة السجن منذ ما يزيد على ربع قرن، وهي أيضًا كانتْ تعيشُ في زنزانة (الوحدة) في مخيم الشاطئ للاجئين غرب غزة، كانت تبكيه، وترجو أن تحضنه قبل مماتها، وكانتْ، وكانتْ، وكانتْ.
عجوزٌ اتخذتها لي صديقة، رغم أن بيني وبينها عقودا كثيرة، لا أدري كيفَ تمالكتُ نفسي ورأيتُها في المقبرة، وأنا التي لم أرَ جدتي حينَ توفاها الله، بل لم أزرْ بيت عزائها أيضًا في مخيم الشاطئ للاجئين..
أم فارس، رأيتُ فيها صورة جدتي والدة أمي، أحببتها كأنها هي، لكن الفارق بينهما أنني كنتُ أقوى حينَ شيعتُ مع المشيعين ستي أم فارس، في الوقت الذي كان قلبي أوهن من بيت العنكبوت حينَ رحلت جدتي الحقيقية، فلم أقوَ أن أراها ولا أن أشهدَ أي لحظةٍ من عزائها..!
كثيرًا بكيتُ خلف الكواليس، وتظاهرتُ بالتماسك، كثيرًا ما فاقم تظاهري أمام الجمهور بالقوةِ معاناتي، اليومَ أعلنها لكلِ من رأى تقريري، اليوم فقط شعرتُ بالراحة، لأنني كنتُ طبيعية وأنا أقدمُ تقريري التلفزيوني، لم أكن متصنعة فلم أُخفِ ضعفي ووهني...!
يا للطبيعةِ حين تُريح القلب، اليومَ أنا ارتحتْ وأنا أقول لكم إني إنسانة.. إنسانة.. إنسانة. ولستُ صحفية بلا مشاعر.. أنا لستُ آلة تكتب.. أنا مثلكم أبكي وأعيش الحدث وأتأثر به.. فلا تلومونا إن تمردنا على قوانين مهنتنا، وأبدينا التأثر في القضايا الإنسانية، تلك القضايا التي تُذيب الحجر قبل البشر يا سادة..