توفي عمر البرغوثي، أبو عاصف، وشيّعه عشرات الآلاف، في يوم ماطر محفوف بمخاطر فيروس "كورونا"، وقد جات تلك الآلاف من كل حارات الضفّة الغربيّة في مشهد عجيب؛ يثير من جهة التساؤل عن السرّ الجاذب في ذلك الرجل حيًّا وميتًا، ومن جهة أخرى يضيء على الشخصية الفلسطينية التي تحافظ على طبيعتها، مهما علاها الغبار، وتبدّلت عليها السياسات والظروف.
ينتمي أبو عاصف إلى عائلة (أعني العائلة الصغيرة الضيقة) قضى العديد من أفرادها عشرات السنوات في السجون، منهم أقدم أسير فلسطيني حتى الآن نائل البرغوثي (شقيق أبي عاصف)، ومنهم عاصم (ابن أبي عاصف) المحكوم بأربعة مؤبدات، ومنهم أبو عاصف نفسه الذي قضى في السجون ما مجموعه ثلاثين عامًا، وزوجه وبقية أبنائه، وفوق ذلك استشهد ابنه صالح بعد مشاركته أخاه في عملية عسكرية، وقد دفعت أثمانًا أخرى كبيرة في هذا المسار المقاوم الحافل، كهدم بيتهم، وغير ذلك مما تتكبده الأسر الفلسطينية التي تحرم الاستقرار ويتفرق فيها الأبناء بين أسير وشهيد.
على فرادة العطاء الذي قدّمته هذه الأسرة يمكن تكثيف تعلّق الفلسطينيين بشخصية أبي عاصف في قضيتين: الأولى الاستمرارية وعدم الانقطاع، والاستمرارية هنا عمودية في الذات وفي التاريخ والأجيال، فالرجل نفسه لم يتغيّر طول حياته وأورث ذلك بعض أبنائه، وأفقية بشمول العطاء الأسرة كلّها تقريبًا، والقضية الثانية هي النقاء النفسي الخالص عند الرجل، الذي كان يبدو وكأنّه هو نفسه لا يشعر بأنّه فعل شيئًا زائدًا، فضلًا عن أن يُشعِر الآخرين بذلك، وهذه ميزة عظيمة قلّ وجودها في الناس، وفي الظروف التي تحتاج لعطاء خالص دون النظر إلى الأخذ والعوض والمقابل، كظروف المقاومة والتحرّر، يصير وجود أصحاب هذه الميزة ضرورة، لما لوجودهم من قدرة هائلة على التثبيت على الطريق، والتصحيح المستمر لهذا الطريق.
إذن، يُحبّ الفلسطينيون المقاومين الذين يعطون أكثر مما يأخذون، والرموز الخالدة في الذاكرة الفلسطينية يغلب عليها أن تكون من هذا الصنف، وسريعًا ما يسقط من ذاكرة الفلسطينيين ويفقد احترامهم وتقديرهم ذلك الذي أراد سياستهم بعيدًا عن الخطّ الصحيح الواجب سلوكه ما وجد احتلال، وهذه حقيقة ظاهرة لا تحتاج للاستدلال عليها، فالفلسطيني لو استروح حينًا من الدهر لسياسات الراحة، ولو ضاق حينًا من الدهر بالأثمان التي يتكبدها جراء مقاومته؛ فإنّه لا يفقد الأصالة الكامنة تحت غبار هذه الظروف أو تلك؛ فأصالة الفلسطيني أشبه بالذهب الذي لا يفقد قيمته، مهما تراكمت فوقه الأتربة، وهذا ما يفسر زحف الفلسطينيين للمشاركة في جنازة أبي عاصف.
الجنازات في حدّ ذاتها ليست معيارًا، فللناس انجذاب طارئ لبعض الشخصيات المُعظَّمة لهذا السبب أو ذاك، ولكنّ أبا عاصف لم يكن يملك من السلطة أو المال أو الجاه العلمي أو الرياسة الحزبية أو من الشهرة في هذه المسالك ما يجذب الناس إليه، ولكنه امتلك ما ذكرناه، من إرادة العطاء المستمرّة بلا منّ ولا أذى ولا مطالبة بالعوض والتقدير، وهي إرادة عطاء صدقت في الواقع فعلًا عظيمًا جليلًا، إلى الدرجة التي كان يتتبع فيها الناس أخبار هذا الرجل: اعتقاله وخروجه من السجن، ومرضه وعافيته، وأخيرًا زحفهم طيرانًا إليه، ما يجعل جنازته دالّة.
أصالة الفلسطينيين هذه تجلّت منذ الانتداب البريطاني، حينما بدأ الشعب القليل العدد في الجغرافيا الضيقة ينظّم مقاومته، بلا خبرة سابقة، وفي ظرف بات مختلفًا عن بقية مجال البلاد الشامية العثمانية التي عاش فيها الفلسطينيون، وهكذا، ظلّ الفلسطينيون يعيدون لأنفسهم بريق الذهب بين حين وآخر، قد يبدو فيه تغيّر في ملامحهم، وهو تغير مضلّل لا يغتر به إلا من جهل الفلسطينيين، الذين بدورهم يمتلكون ذكاء نضاليًّا فطريًّا، يدرك بطبيعته خصوصية الحالة الفلسطينية الجيوسياسية، حينما يضطر النضال الفلسطيني إلى الانكفاء أو التراجع، أو التقاط الأنفاس، دون أن يتخلّى في أعماقه عن وعيه بالقضية واستحقاقاتها، وعن انجذابه الدائم للمقاومين المتفرّدين.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 فجّر الفلسطينيون ملحمة حول المسجد الأقصى، استمرت ارتداداتها سنوات إلى الأمام، في جغرافيا فلسطين كلّها، وقد تجددت هذه الملحمة في أوقات لاحقة، في محيط المسجد الأقصى، بأشكال متعددة ولأسباب متنوعة، وقبل ذلك خاض الفلسطينيون في غزّة حربًا طاحنة، كشفوا فيها عن إرادة الفلسطيني الأصيل، إذا آمن بالشيء وسعى إليه، وهو ما يحيل مرّة أخرى إلى الروح المجبولة من الذهب في أعماق الفلسطيني.
موازين القوى المتواطئة على الفلسطيني، والحقائق الجيوسياسية الحاكمة لقدرات أيّ فعل مقاوم في فلسطين، ومن ذلك حدود استمراريته، والسياسات الخطأ التي انتهجتها القيادة المتنفّذة في منظمة التحرير إلى اليوم كلّها عوامل تتحالف لإحباط الفاعلية الفلسطينية، لكن هذه الفاعلية قابلة للنهوض، وهو ما ينبغي أن تشتغل عليه القوى التي تُركّز مقولتها على مقاومة العدوّ.