اهتمام المقدسيين بتراث مدينتهم لم يأت من فراغ، فهي المتربعة في قلوبهم وتمتلك ثروة تراثهم الذي يحمل في جعبته الماضي والحاضر والمستقبل، مؤمنين "بأننا ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة"، فبلوروا ذلك بأشكال متعددة كالفعاليات والنشاطات وإصدار الكتب.
ماجدة صبحي ناشطة مجتمعية في قرية بيت صفافا ومدينة القدس وباحثة تراثية، اهتمت بالتراث والفعاليات الثقافية لتبلورها بكتاب "زفة وزغرودة يا بنات".
هذا الحب الأبدي للتراث والاهتمام به ليس هباءً، ففي طفولتها كانت تنحاز للرموز الوطنية، والفنون الشعبية كالدبكة، وارتداء الكوفية الفلسطينية، واستخدام الأدوات كحجر الرحى وطبق القش والفخاريات والأثاث القديم والطابون.
تقول لصحيفة "فلسطين": "كل هذه التوليفة عشتها مع والدتي، وبدأت أعي وأشعر بالخوف من فقدها بعد اجتياح الحداثة حياتنا، وأشعر بالذنب لعدم تسجيل كل معلومة كنت أسمعها من والدتي ووالدي وكبارنا قبل وفاتهم، خاصة حكايا البلاد قبل النكبة، مهما كانت بسيطة".
وبعدها أصبحت ماجدة تَنهمُ من كتب التاريخ والتراث الفلسطيني كشخص جائع لم يأكل منذ يومين أو أكثر، بالقراءة والتبحر في كتب التاريخ الإسلامي، وقصص الصالحين والسيرة النبوية بنشاطها واعظة في القرية، ومجالسة كبار السن من حولها.
"دخولي إلى الشبكة العنكبوتية، واقتحامي عالم مواقع التواصل الاجتماعي فتحا لي باب التعرف والوصول إلى صفحات المؤرخين والباحثين، والكتب الإلكترونية التي أضافت لي الكثير" تضيف ماجدة.
ماجدة ترتدي الثوب الفلسطيني يوميًّا بنية تشجيع من حولها على ارتدائه، تعلق: "أرى فيه نوعًا من أنواع مقاومة الاحتلال الصهيوني، لا أتقاعس عن لبسه في سفري ورحلاتي، وأي حدث ومناسبة، أرتديه بكل حب وسعادة وفخر، وأطهو أكلاتنا الفلسطينية، وأحيي تراث الأطباق التي تقف على قارعة الاندثار، خاصة الحلويات وأكلات المناسبات التي لها معاني اجتماعية ودينية في موروثنا الشعبي".
وتوضح أنها تعمل على نشرها عبر مواقع التواصل مع مقاديرها وكيفية طهيها لتعليمها للأجيال الجديدة، وتقتني في بيتها أدوات وقطعًا قديمة ورثتها من والدتها ووالدة زوجها وأقاربها.
"يبوسية" لقب اختارته لنفسها على مواقع التواصل قبل الإفصاح عن الأسماء الحقيقية: "كنا يومها نرتاح للألقاب التي تعبر عنا، ونخفي أسماءنا للخصوصية، فاخترت لقب اليبوسية الفلاحة تيمنًا باسم مدينتي القدس القديم (يبوس) نسبة لقبائل اليبوسيين الذين سكنوها قبل آلاف السنين، وأحب هذه الكنية لأني أجد نفسي فيها".
تتبع صبحي الكتب التي وثقت تاريخ وحضارة قرية بيت صفافا، مثل كتب المؤرخ الصفافي مصطفى عثمان، وأيضًا مذكرات حسن إبراهيم عثمان وغيرهما، ومجالسة كبار السن ونبش ذاكرتهم.
هل وصلت فيها إلى شيء جديد لا يعرفه الآخرون؟ تجيب: "هي تفاصيل ربما لم يهتم بها أحد مع أنها تشكل حياة يومية وعادات وأعرافًا غابت عن التوثيق، وأيضًا تساؤلاتي عن بعض الأحداث التي كانت تثير فضولي أيام النكبة والنكسة ومعارك القدس".
اعتمدت ماجدة على التوثيق الشفوي من أهل قريتها بالأساس، ثم المراجع الكتابية، إضافة إلى كتب مؤرخين فلسطينيين كعارف العارف، ووليد الخالدي، ونمر سرحان وغيرهم.
وبعدها بدأت تتبلور في ذهنها فكرة لتحتضن اهتمامها بالثقافة والتراث، فاختارت عنوان "زفة وزغرودة يا بنات" من مقطع في إحدى أغاني العرس الفلسطيني للتعبير عن مضمون الكتاب، إضافة إلى لوحة الغلاف التي تعبر عن حنة العروس، وقد استغرقت عملية البحث والكتابة والتحرير والتصميم خمسة أعوام.
وتشير ماجدة إلى أن الهدف من الكتاب تجميع الأناشيد والأهازيج الخاصة بالعرس الفلسطيني، وفي جلساتها مع نساء القرية ورجالها وجدت أن هناك تفاصيل أخرى عليها تدوينها، كالعادات في الفرح والمصاهرة وتفاصيل كثيرة بدأ الفلسطينيون يفقدونها في زمن الحداثة وعصر التكنولوجيا، وأيضًا حكايات وقصص حدثت فيها لمحات وذاكرة شعب يستحق أن يفرح ويعيش كما باقي الشعوب.
وتتابع: "لم أنسَ أن أدون مسائل كثيرة كاختيار العروس، وطبيخ العرس، وأنواع الأهازيج والأمثال الشعبية في المصاهرة والزواج، وتاريخ العرس وتسلسله حسب الظروف السياسية التي مرت بها قضيتنا، فانعكست على أفراحنا كالعرس بعد النكبة وبعد النكسة، وفي الانتفاضتين وفي هذا الزمن زمن القاعات والـ(دي جي) ... إلخ".
وترى ماجدة أن أهم شيء لها أن يبقى هذا الكتاب مرجعية لأجيال قادمة، ولحفظ ذاكرة التاريخ والحكايات والتراث، حتى تبث في من حولها روح التفاؤل والفرح، خاصة في هذه المدة المعيشة في زمن كورونا، والمنحنى الصعب الذي وصلت إليه القضية.
كما أنها تحفز من حولها لئلا يستهينوا بأي معلومة يسمعونها من كبارهم، بل أن يحفظوها لأبنائهم وأحفادهم لعلها تكون ذاكرتهم وتنتقل من جيل إلى آخر: "فكل معلومة نوثقها ونتناقلها، وكل موروث نحافظ عليه ونطبقه في حياتنا كلبس الثوب وغيره هي تحدٍّ للاحتلال، ونحن نخبر العالم أجمع بأن هذا التاريخ لنا وهذه الأرض بكل ما فيها وعليها لنا".
وتسعى الآن لتوثيق الأكلات والأطباق الشعبية وحكايات الجدات الشعبية، وأنواع وتاريخ الغرزات في الثوب الفلسطيني.
وأحد التحديات -كما تقول- هو فقد بعض الكبار قبل توثيق ما لديهم من معلومات أو حكايات تراثية: "فقدنا هؤلاء الذين يحملون ذاكرتهم في أدمغتهم دون حفظ الكنوز التي معهم".
تحلم صبحي أن تجد آلية ومنهجًا تعليميًّا شعبيًّا لغرس كل هذه القيم في صغارنا، لينبت جيل متمسك بإرثه وتاريخه ووطنه، والعودة لأعرافنا بقدر الإمكان وتحديثها لتناسب هذا العصر.
وتوجه رسالة إلى الأجيال بقولها: "تمسكوا بماضيكم وتاريخكم وإرث أجدادكم، فعدوكم يسرق هذا الإرث وينسبه له، فمن لا يعرف ماضيه لا يستطيع أن يعيش حاضره ولن يكون له مستقبل".
التراث هوية
بدوره مدير ومؤسس مركز السنابل للدراسات والتراث الشعبي في بلدة سعير قضاء الخليل د. إدريس جرادات يوضح أن التراث الشعبي هوية الفلسطينيين الوطنية، فمن لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل، قائلًا: "القدس حينما تدخلها تشعر بمنظومة تراثية، ونظام قائم بحد ذاته".
ويضيف في حديث مع صحيفة "فلسطين": "للقدس ميزة خاصة، من حيث التنوع الجغرافي والطبيعي والتنوع البشري والسكاني، إذ لكل شخص بصمة على مر التاريخ".
ويشير إلى أن كل ما يتعلق بالقدس ماديًّا ومعنويًّا وأدبيًّا وتراثيًّا، وما يدخل فيه من أمثال وقصص وحكايات وأناشيد وأهازيج ونكت، يدل على أن القدس حاضنة لكل الموروث الشعبي.
ويبين جرادات أن القدس تشن عليها عمليات تهويد ومحاولات طمس في المجالات كافة، والاستيلاء على الطرق والأزقة والشوارع والبلدة القديمة والبيوت وتهجير سكانها منها.
ويذكر أن الاحتلال يعمل على إلغاء كل الاحتفالات والمهرجانات والأيام التراثية، بالسجن والاعتقال لكل القائمين عليها.
لكن جرادات يقول: "أهل القدس جذورهم عميقة ضاربة في عمق التاريخ، فمهما حاول الاحتلال طمس هذه المعالم فإنها ستبقى سائدة في الأفراح والأتراح والأكلات الشعبية والمناسبات والأهازيج والحكايات وغيرها، فإذا شعرت أنك مهدد في ذاتك فحاول أن تثبت ذاتك بالحفاظ على التراث".