في قرية كوبر شمال غربي مدينة رام الله تشكلت لوحة وطنية متكاملة رسم ملامحها أبطال الضفة الغربية، وضبط ايقاعها سيدي عمر وهو يتقدم الصف بجنازة مهيبة ذاهبا إلى دار الخلود غير خائف ولا متردد إلى مصير يحمل البشرى والخير العظيم، ليلتقي في رحلة عاجلة وأبدية مع سكان عالم اخر سبقوا على ذات الدرب، بعد أن طال شوقهم وانتظارهم لرسائل جديدة تصلهم من الأرض المباركة.
وقد تكفل سيدي عمر في يوم الجمعة 26 مارس من العام 2021 بإيصال الأمانة نيابة عن إخوانه بعد أن قطع تذكرة الرحيل وصعد في قاطرة حضرت بشكل طارئ لتنقله من محطة الأرض إلى مركز السماء، فعلى الرغم من أنه لم يتم إبلاغه للسفر الأبدي إلا أنه قد تهيئ مبكرا للموعد، فهذا العالم لا يعطي موعدا مسبقا، ولكن الصادقين يؤمنون بأن الرحلة تأتي في توقيت مناسب دوما.
لكن هذه المرة حضرت الجماهير لمرافقته حتى اللحظة الأخيرة وكأنهم رافقوه إلى بوابة السماء، فالسواعد التي تزاحمت لحمله، وتدافعت لتقبيل وجنتيه، والجموع التي حاولت ملامسة بدلته الأنيقة ذات اللون الأبيض، ولحيته المعطرة، لم يكن في حسبانها أن سيدي عمر سيسافر بهذه السرعة، وبالكاد تفهمت أنه مغادر ولن يعود.
انه مشهد مختلف في تكوينه ومعانيه ودلالته حين تشاهد العجائز تسابق الشباب في هذا الموكب المهيب، وحين ترى أبطال الضفة يظهرون بلباسهم العسكري غير ابهين بالمخاطر والتحديات التي تلاحقهم في ظل هجمة شرسة من العدو، فقناعة هؤلاء أن قواعد الخوف لا يمكن فرضها على مناضلي الضفة لأنهم من يصنع الردع في وجه العدو المجرم، ولان الحدث جلل فإن معظم المداخل والمخارج في كوبر أغلقت بفعل الازدحام الشديد، وكأن الرجل العظيم قد فرض برحيله استنفارا عاما في كافة أرجاء رام الله بل في الضفة الغربية وعموم فلسطين.
فلا تكاد تجد فرصة لعبور شارع في مداخل ومخارج القرية، فمع مرور الموكب الجنائزي المهيب كانت تتوقف عشرات السيارات على جانبي الطريق وكأنها تعطي التحية والسلام العسكري لهذا البطل، وقد كانت للصخور فوق الجبال موقفا وطنيا يثبت ارتباطها بهذه الأرض وهي تقف شامخة ثابتة لا تهزها الرياح كمثل الذي كلف بتأمين الموكب، أما أشجار كوبر فقد بدأت بالنحيب تتمايل أغصانها حزنا على غياب المؤنس الرفيق، وإذا ما نظرت لسماء القرية وجدتها صافية فهي في حالة استعداد لاستقبال عريس في رحلته المكرمة.
وقد أخبرني أحدهم أن القرى والمدن المجاورة تلقت دعوة المشاركة باكرا لان المقام لا يخص كوبر وحدها والفقد يطال الجميع والرجل كان قريبا من الافئدة الطاهرة في الضفة، بل في كل فلسطين، يلامس جراحهم ويناضل من أجلهم ويكتوي بنار الملاحقة والاستهداف مثلهم، يحمل هما وطنيا لازمه طوال العمر وكلفه ثمنا في نفسه وأسرته الخاصة والممتدة، حتى لقى الله على ذلك غير مبدل ولا مفتون.
وعلى الوجه الاخر فقد تسلل لصوص المعلومات خفية يسترقون النظر لتقييم الجنازة، فيما تتبع الاخرون ملامح بعض الملثمين، لفك شيفرة هذه الشخصيات كصيد ثمين يمكن أن يقدم من هؤلاء لدوائرهم اللاوطنية، عل أحدهم يفوز عند سيده بعائد مالي رخيص، أو ترقية استثنائية، فأخوف ما يخاف هؤلاء هو عودة الملثمين من جديد، فإن في عودتهم المفاجئة ناقوس خطر على أصحاب الياقات البيضاء الذين يقررون اليوم في مصير شعب، ولم يتشرفوا بنيل طهارة الجنازة، وكفروا بالوطن والوطنية، إلا ما تبقى على السنتهم من شعارات لحاجة الموسم لذلك.
حتى بدت البغضاء من أفواه وأقلام أسيادهم تخدش حياء الجنازة، وتلمز شخص البطل، وتؤنب الجماهير، وتحرف الأنظار لقراءات خبيثة ومشبوهة، الغرض منها تشويه الصورة واطفاء بريق هذا المشهد، وحرمان كوبر من عزها وفخارها بهذا البطل، فلا يريدون لهذه الرمزية أن تتمدد، ولا يريدون لهذه المنارة أن تحلق في سماء فلسطين، فلا تسمع لهم إلا نعيقا مقززا.
ولا أظن أن أحدا يلتفت لهؤلاء الغربان، لان الصور والمشاهد التي طيرتها "قرية كوبر" إلى كل الدنيا تقول نحن خلف هذا الطريق، نحن على درب سيدي عمر كما يحب أن يناديه رجال كوبر، لا نختلف عليه، ولا نريد نهجا غير النهج، أو طريقا غير هذه الطريق، خرجنا لمهمة كبيرة ليس لمرافقة جنازة فقط إنما لتجديد بيعة الدم في حضرة قائدنا الكبير، وعاهدنا ألا نقيل أو نستقيل في مواجهة هذا العدو المجرم.
نعم صدقت كوبر وهي تهتف" حط السيف قبال السيف احنا رجال محمد الضيف"، فقد تلاقت السيوف في مواطن متعددة، حين تلاقى سيف غزة القائد القسامي حسن سلامة، مع سيوف رجال الضفة وهو يقود عمليات الثأر المقدس للقائد القسامي يحيى عياش، وغيرهم الكثير ممن نعرفهم، أو من غاب ذكرهم لأنهم لازالوا أحياء يرزقون، وظني أن الأخ أبو خالد قد وصلته رسالة كوبر وهتافها من خلال أمنائه المخلصين كبرقية عاجلة، توحي بأن الضفة عند عهدها ووعدها، وأنها قادرة على تدفيع العدو ثمنا يفقده صوابه، ويقولون متى هُو قُل عسى أن يكون قريبًا.