فلسطين أون لاين

​ثلاثة أيام في السّجن.. (1)

...
يكتبها/ م. عيسى الجعبري - وزير الحكم المحلي الأسبق

"الحلقة الأولى"

رحلة اعتقالي هذه _وهي المرة العاشرة التي اعتقل فيها_ كانت قصيرة جدًّا، ثلاثة أيام فقط، قضيت نحو نصفها مقيّدًا، ولا أزال أعاني حتى الآن من الآلام من أثر ذلك، ولكني التقيت فيها عددًا كبيرًا من الأحباب الذين لا ألاقيهم عادة إلا في السجون.

جاءني قرار الإفراج عندما كنت في معبر "سجن الرملة"، على غير توقّع مني، وإن كنت لم أفقد الأمل، فرحمة الله واسعة، ودعاء الصالحين من الأحباب بلسم فيه شفاء.

وهذه قصتي أضعها على عدة حلقات بين يديكم قُرّاء "فلسطين":

كانت الساعة بُعَيد الواحدة بعد منتصف ليلة الإثنين 15/ 5/ 2017م عندما استيقظت من نومي على رنين هاتفي، وأسرعت لأستقبل المكالمة التي كانت من شقيقتي وأخبرتني فيها بأن "الجيش" في الساحة أمام منزلنا، واستيقَظَتْ على صوت تلك المكالمة زوجتي، ثم ابنتي بتول، فأخبرتهما الخبر، فسارعتا إلى ارتداء ملابس الصلاة، في طقوس يحفظها أهل البيت جيِّدًا بحكم الخبرة الأليمة المتكررة مع زوار منتصف الليل هؤلاء.

ذهبت إلى غرفة الصالة حيث النافذة المطلة على الساحة الأمامية لمنزلي، فرأيت الجنود والسيارات العسكرية التي أقلّتهم، ولكنهم كانوا متوجهين إلى منزل ابن عم لي إذ بدؤوا يطرقون باب منزله بشدّة وعنف، حينها كانت التساؤلات تدور في رأسي: هل هم آتون إليّ كالعادة أم أن المقصود بهذه الزيارة المزعجة هو ابن عمي لتبليغه طلب مقابلة كما يفعلون كثيرًا مع فئة الشباب خلال المدة الأخيرة؟، وبقي التساؤل حاضرًا والوقت يمضي بعد دخولهم منزله، وقضائهم وقتًا فيه، ربما استمر ربع الساعة، ثم رأيتهم يقبلون نحو منزلي وقد أحضروا ابن عمي معهم ليدلهم على المنزل.

تفتيش

سارعت إلى فتح الباب ونزلت عدة درجات نحو الطابق الأرضي الذي تسكنه والدتي، فقابلوني في منتصف الطريق، وبصياحهم المعهود سألوا عن اسمي فأخبرتهم، فطلبوا بطاقة هويتي، فناديت على زوجتي لإحضارها، وأعطيتهم البطاقة، وعندما تحققوا من شخصيتي طلبوا مني العودة إلى منزلي وهم معي للتفتيش.

كان عدد الذين دخلوا المنزل نحو (10) أشخاص، وكان فيهم مجندتان أو ثلاثة، وشرطي، يمكن تمييزه بسهولة، لأن لباس شرطة الاحتلال مخالف للباس الجيش، وطلب ضابط القوة منا الاجتماع في غرفة الصالة، أنا وزوجتي وابنتي بتول، وكانت ابنتاي التوأمان الصغيرتان اللتان لمّا تبلغا سنّ الثامنة (شهد ومريم) مازالتا نائمتين، فطلبت زوجتي من الضابط إبقاءهما نائمتين في غرفتهما، فوافق في البداية، ثم بعد قليل تراجع وطلب إيقاظهما وإحضارهما عندنا لأنه يريد تفتيش كل المنزل، فذهبت والدتهما لإيقاظهما، وكان معها بعض الجنود، فاستيقظت الصغيرتان وفتحتا أعينهما لتجدا جنود الاحتلال مدججين بسلاحهم حول سريرهما، ولك أن تتخيل الأثر الذي يتركه ذلك على طفلتين صغيرتين، تدركان أن أباهما دومًا معرَّضٌ ليغيب عنهما وراء القضبان، فعلى صِغر سنّهما لهما في هذه المسألة تجربة مريرة، إذ ولدتا وأنا في السجن، ولم أرهما إلا عندما خرجت وكان سنهما (9) أشهر، واعتقلت بعد ولادتهما (3) مرات قضيت فيها (45) شهرًا بعيدًا عنهما، فصار مجموع ما عشته في السجن بعيدًا عنهما (54) شهرًا، وعشت معهما من عمرهما (41) شهرًا فقط، ولكنها المرة الأولى التي اعتقل فيها وهما مستيقظتان تشهدان استلابي من بين أيديهما.

جاءت الصغيرتان وعانقتاني وهما تبكيان، وجلستا في حضني، فصرت ألاعبهما وأقول لهما: "يجب أن تبقيا قويتين، وإنكما ستأتيان لزيارتي في السجن كما في المرات الماضية"، وبقيتا ملتصقتين بي ما أمكنهما ذلك، فهما متعلقتان بي جدًّا، وكان مشهد الجنود المدججين بأسلحتهم التي يصوبونها نحونا مستفزًّا للصغيرتين اللتين كانتا تبكيان بهدوء، وتمطرانني بقبلاتهما بين الحين والآخر.

مصادرة للأموال

طلب الضابط من زوجتي أن تجمع له كل النقود التي في المنزل لأنه يريد تفتيشه، ورافقتها إحدى المجندات في أثناء ذلك، وبعد إحضار النقود الموجودة _وكان المبلغ نحو (6,000) شيكل_ بدأت عملية التفتيش التخريبية التي لزم زوجتي بعدها العمل ثلاثة أيام لإعادة ترتيب المنزل.

في أثناء ذلك طلب مني الضابط الحضور من الصالة، وكان يجلس على طاولة غرفة الطعام هو والشرطي وإحدى المجندات، وكانت هي التي تحمل الأوراق، وتصور المنزل، وكانت تتحدث باللغة العربية، وكانوا يعدون النقود، ويسجلون تفاصيلها في ورقة معهم، وطلبوا مني توقيع ورقة بقيمة المبلغ الذي قالوا: "إن هناك قرارًا بمصادرته".

بعدها بقليل، وكان ضابط الوحدة يخرج إلى الشرفة (البلكونة) ويهاتف ضابط مخابرات المنطقة، أخبروني أنهم يريدون تفتيش سيارتي، وكانوا قد أحضروا مفتاحها من مكانه، فأخذوني معهم لتفتيشها، وفي أثناء نزولنا كانت والدتي (حفظها الله) تجلس قرب باب منزلها وهو مفتوح تراقب ماذا يفعلون معي، فطلبوا منها الدخول وإغلاق الباب، وعندما وصلنا إلى السيارة وقلت لهم: "هذه هي"، استغربت "المجندة" ونظرت في الورقة التي معها، وقالت: "إن السيارة يجب أن تكون سيارة (ستيشن)، وليست سيارة عادية"، فقلت لها: "هذا الموجود عندي، وإن نظرت حولك (وكان في الساحة أمام منزلي نحو (10) سيارات لإخوتي وأعمامي وأبنائهم) فليس هناك أي سيارة (ستيشن)".

كنت أدرك مكمن الخلل عندهم، فقد كانت عندي سيارة (ستيشن) قبل نحو (6) سنوات، عندما طُلِبتُ لمقابلة ضابط مخابرات المنطقة، وسجل خلال المقابلة نوعية سيارتي، ويبدو أن معلوماتهم لم تحدّث، فلم يُسَجَّل عندهم أني بعت تلك السيارة وتملكت غيرها، وهذا يدل على أن الوهم الذي يشيعونه عن معرفتهم كل شيء يتعلق بنا فيه مبالغة كبيرة.

بعد تفتيش السيارة عدنا إلى المنزل، وكان بقية الجنود مازالوا يفتشون فيه ويعيثون فسادًا، وجلست في الصالة مع الصغيرتين وبقية العائلة، وكان الجنود مازالوا يحجزوننا مصوبين الأسلحة نحونا، ثم استدعاني الضابط، وأخبرني أنهم لن يصادروا النقود، بل سيصادرون السيارة، ثم بعدها بقليل خرج وكان يتكلم عبر هاتفه، ثم أتاني وأعطاني الهاتف وقال لي: "ضابط المخابرات يريد الحديث معك".

الكابتن

كان على الطرف الثاني من الخط من عرَّف نفسه بأنه "الكابتن أمين"، سألني عن حالي، وعن معاملة الجنود لنا، ثم أخبرني بأنه يأسف لإبلاغي بأني الآن معتقل، وأن سيارتي ستصادر، فطلبت منه أن يتكلم مع ضابط الوحدة ليسمح لي بحمل ملابسي وأدويتي معي، فلم يمانع وتحدث معه في ذلك.

طلبت من زوجتي تحضير ملابس لي، آخذها معي إلى السجن، فذهبت لتحضير الملابس، والمجندة برفقتها، وزوجتي تعرف عمومًا ما يلزمني، بحكم الخبرة السابقة من (9) اعتقالات ماضية، وجهزت أنا ما أحتاج له من أدويتي وحملت مصحفي معي، ثم ودّعت زوجتي وابنتي بتول والصغيرتين شهد ومريم، اللتين كانتا تبكيان وتتمسكان بي، فطلبت منهما مرة أخرى أن تكونا قويتين كما عهدتهما، ثم استودعتهم الله الذي لا تضيع ودائعه، وغادرت منزلي والجنود يحيطون بي من أمامي وخلفي، وخلال نزولي قلت للضابط: "إني سأودع والدتي"، فحاول الجنود منعي، لكني أصررت على ذلك فسمحوا لي، ففتحت باب منزلها وقبّلت يديها، وشيعتني بدعواتها ورضاها.

لم تكن سياراتهم بعيدة عن المنزل، وعندما وصلنا إلى سيارتي أوقفوني ووضعوا القيود البلاستيكية حول يدي، ووضعوا عصبة القماش على عينيَّ، ثم طلبوا مني الركوب في سيارتي في المقعد الخلفي، وكان معي فيها جنديان، أحدهما كان يسوقها، وبعدما تحركنا بقليل _وكنت أسترق النظر من تحت العصابة التي على عينيّ_ لمحت أن الجندي الذي يسوق سيارتي قد التقط صورة (سيلفي) له ولزميله، وكنت في الكرسي خلفهما مقيَّدًا معصوب العينين.

ضاعت الوُجهة

سارت قافلتنا، وكانت الساعة قد أصبحت الثالثة والنصف، فقد مكثوا نحو ساعتين في تفتيش منزلي، وسارت بنا نحو مستوطنة (خارصينا) عبر الطريق الالتفافية، وهناك وضعوني في ساحة مكشوفة والجنود حولي، فسمعت الأذان لصلاة الفجر فقمت وأديت الصلاة، ولا أدري أصليتها نحو القبلة أم لا، ولكن كان هذا ما في استطاعتي، ولا يكلف الله نفسًا إلى وسعها.

بعدها وضعوني في غرفة قريبة على كرسي ووجهي إلى الحائط، وبقيت فيها نحو ساعتين في تقديري، حتى حضر من سيجري لي الفحص الطبي الروتيني الذي يجرى للمعتقل أول الاعتقال.

قاس الطبيب _هكذا أظنه_ نبضي وضغط الدم عندي، الذي كان مرتفعًا، ثم سألني عن الأدوية التي أتناولها، وكنت قد حملتها معي، فأنا أتناول نوعي دواء لمرض السكري، ودواءً لضغط الدم، وآخر للكوليسترول، ودواءً للنقرس، ومميعًا للدم، وأدوية لمعالجة نقص الفيتامينات، فسجل كل ذلك عنده، ثم سألني الأسئلة المعهودة عن الأمراض التي أعاني منها، وعن تاريخي المرضي.

وبعد انتهاء هذا الفحص أعيدت القيود إلى يديَّ والعصبة إلى عينيَّ، وحملوني في سيارة نقل جنود كبيرة، كنت فيها وحدي، تحت حراسة جنديين، وكانت مجندة تقود تلك الشاحنة التي توجهت بنا نحو معسكر (عصيون).