مضت سنوات طويلة على تلك الأيام التي كان فيها الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، يسمي عملية التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين "سلام الشجعان"، مستلهما عبارة الرئيس الفرنسي السابق، شارل ديغول، الذي تحرّرت الجزائر في عهده. وظل عرفات يسمّي رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين، الذي وقع معه اتفاق أوسلو، "شريكي"، حتى بعد اغتيال هذا الأخير صار اسمه "شريكي الراحل"، للإيحاء بأن السلام معه كان خيارا إسرائيليا جدّيا.
والحقيقة أن الإسرائيليين عامة، ورابين خاصة، لم يبادلوا عرفات هذه الحفاوة بعملية السلام المتعثرة، ولا أحد منهم أطلق على عرفات أية صفة تقرنه بالسلام. بل تعدّدت الأسماء التي تربطه بـ"الإرهاب"، وتعتبره العقبة الكأداء أمام عملية السلام، من قبيل تسميته "الإرهابي في المقاطعة"، أو وصفه بالشخص غير ذي الصلة. قلة قليلة جدا من القادة الإسرائيليين، وتحديدا من حزب ميريتس اليساري، وقادة حركة السلام الآن مثل مؤسسها أوري أفنيري، كانوا يواظبون على زيارة عرفات في مقرّه، ويعلقون آمالا عريضة على إمكان تحقيق السلام لفائدة الشعبين.
الآن لا يأتي أي قائد إسرائيلي يهودي مهم على ذكر عملية السلام، وتتّجه الأحزاب الإسرائيلية المتنافسة نحو الانتخابات، اليوم (أمس)، 23 مارس/ آذار الجاري، من دون أن يشار حتى للشعب الفلسطيني إلا بشكل عابر، وبما يخدم السياق الإسرائيلي الهادف لتكريس الاحتلال، فعلى الرغم من أن عدد الفلسطينيين الذين يعيشون على أرض فلسطين التاريخية يساوي عدد الإسرائيليين اليهود، قليلا ما يوصف الفلسطينيون بأنهم شعب، وإنما يشار لهم أنهم "سكان المناطق"، أو "السكان الفلسطينيون في يهودا والسامرة"، أو "عرب إسرائيل" في إشارة إلى الباقين في المناطق المحتلة عام 1948 وفرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية.
أبرز ملامح الانتخابات الإسرائيلية اختفاء ما كان يسمّى "معسكر السلام" الإسرائيلي إلى حدّ يقارب الاندثار. وإذا استثنينا القوى السياسية الممثلة للفلسطينيين الباقين على أرضهم، فإن الحزبين الباقيين من قوى معسكر السلام، العمل وميريتس، يترنّحان ويراوحان في الاستطلاعات حول نسبة الحسم، وحتى لو بقيا في المشهد السياسي الإسرائيلي فإنهما لا يوليان "السلام" مع الفلسطينيين أية أولوية تذكر، ويركزان، في دعايتهما وبرامجهما، على الحقوق المدنية، وضرورة الخلاص من حكم نتنياهو الفاسد، وقضايا أخرى اجتماعية وسياسية داخلية. ولأنهما متهمان بمحاباة الفلسطينيين على حساب الإسرائيليين، ينحو هذان الحزبان دائما إلى إثبات صهيونيتهما، واتهام الفلسطينيين بالمسؤولية عن فشل عملية السلام كما فعل حزب العمل، أو الحديث العابر عن "حل الدولتين" مع التراجع عن الإقرار بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني كما فعل "ميريتس" الذي لم يكتف بذلك، بل إن أحد قادته، الجنرال يائير غولان، أيد خطة الضم إذا كانت ستؤدّي، حسب رأيه، إلى الانفصال عن الفلسطينيين.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أنه لا يوجد أي حزب إسرائيلي صهيوني يمكن أن يؤيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين، أو ينتقد جيش الاحتلال وجرائمه في الأرض المحتلة، أو يغامر بالدعوة إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران عام 1967. ويعود اضمحلال معسكر السلام من خريطة الأحزاب المتنافسة، كما من ميدان العمل الجماهيري على طريقة حركة السلام الآن، لأسباب كثيرة، منها ما هو داخلي والتحولات الجارية في المجتمع الإسرائيلي، ومنها ما يعود إلى أداء الفلسطينيين وانقساماتهم التي بدّدت طاقاتهم بدلا من تركيزها على مواجهة الاحتلال بما يجعله باهظ التكاليف، فيكون خيار السلام أجدى وأفضل.
باقي الأحزاب الإسرائيلية التي تخوض الانتخابات يمينية، سواء بمنطلقاتها الأيديولوجية أو موقفها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي تنقسم إلى أحزاب اليمين العلماني (الليكود، أمل جديد برئاسة جدعون ساعر، حزب يمينا المتطرّف والاستيطاني، إسرائيل بيتنا برئاسة أفيغدور ليبرمان الداعي إلى ترحيل الفلسطينيين من مناطق 1948) واليمين الديني، ويشمل حزبي شاس ويهدوت هتوراة، وحتى الحزب الذي يصنّف وسطا، أي حزب يوجد مستقبل، برئاسة يائير ليبيد، المنافس الأبرز لنتنياهو كما تشير الاستطلاعات، فهو وسطي في القضايا الداخلية لجهة علمانية الدولة ومواجهة نفوذ الأحزاب الدينية، لكنه يميني تماما، ولا يختلف عن مواقف الليكود تجاه القضية الفلسطينية والموقف من الاحتلال.
باتت جميع هذه الأحزاب تنطلق من قانون القومية العنصري وتسلّم به، وهو القانون الذي يحصر حق تقرير المصير في (أرض اسرائيل) باليهود، كما يعتبر الاستيطان أولوية قومية للدولة. ولا تخفي هذه الأحزاب تأييدها الصريح لخطة الضم والسيطرة على أوسع مساحات ممكنة من المناطق المصنفة ج، والخلاف هو فقط حول مساحات الضم، وهل تشمل جميع المستوطنات، أم تقتصر على الكتل الاستيطانية الكبرى.
فكرة إهمال 6.5 ملايين فلسطيني على أرضهم وإنكارهم، لا تبدو منطقية، لذلك يجري التحايل عليها بالتمييز بين الفلسطينيين، من خلال محاولات إخراج قطاع غزة من المعادلة بشكل كامل، وتصويره خطرا "إرهابيا" لا غير. أما فلسطينيو الضفة الغربية فهم مجرّد سكان حقوقهم فردية ومعيشية وحياتية، وأقصى ما يمكن منحهم من حقوق السماح لهم بالعمل في (إسرائيل)، ولا حقوق سياسية أو وطنية لهم. وحتى عند الحديث عن شكل الحل النهائي الذي يطرحه نتنياهو فهو كيان لا سيطرة له على الأرض، ولا على أجوائها وباطنها ومواردها المائية، ولا الحدود والمعابر، ولا حتى على المجال الكهرومغناطيسي. ويختم نتنياهو وصفه هذا الكيان بالقول متبجّحا "إذا أرادوا أن يسموها دولة فليسموها"، مع أنه ادّعى، في أكثر من مناسبة، استحالة تحقيق سلام مع هذا الجيل من الفلسطينيين، وأن أقصى ما يمكنهم الحصول عليه هو السلام الاقتصادي.
الفلسطيني، في نظر الأحزاب الإسرائيلية المتنافسة، هو المشكلة، وهو "الآخر" الذي لا يرغبون بإطالة الحديث عنه، وهو الخطر الديمغرافي، أو القنبلة الموقوتة. والغريب أن نتنياهو، وفي غمرة تشبثه بالسلطة، وقتاله من أجل مقعد او مقعدين إضافيين في البرلمان (الكنيست)، اكتشف أنه يمكنه بذل جهودٍ لانتزاع مقعد أو أكثر من الوسط العربي المستاء من أداء القائمة المشتركة، والممتعض من انقسامها وخلافاتها. وقد شجّع هذا التوجه أحزابا أخرى على التوجه إلى الناخبين العرب الذين كان التحريض على نسبة مشاركتهم في الانتخابات الأسلوب الذي استخدمه رئيس الوزراء اليميني لتخويف اليهود وحضّهم على زيادة نسبة التصويت له ولحزبه قبل أعوام قليلة، ما مكّنه من مواصلة الاحتفاظ بالسلطة.