أخفق الفلسطينيون في اصطفافاتهم في غضون نزاعاتٍ غير قليلة في العالم. أكّد هذا، أخيراً، أن جمهورية كوسوفو (أو كوسوفا بتسميةٍ أصحّ غير ذائعة) لم تكتفِ بعلاقاتٍ دبلوماسيةٍ متبادلةٍ مع (إسرائيل)، بعد أن صارت الأخيرة الدولة المائة التي تعترف بها، بل أيضاً افتتحت، الأسبوع الماضي، سفارتَها في القدس المحتلة، لتكون في هذا السلوك، الخارج عن القانون الدولي، الثالثة بعد الولايات المتحدة وغواتيمالا، ولتصير الدولة الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة التي ترتكب هذا الفعل الشائن. ومن حزمة دلالاتٍ في الخبر أن استقلال شعب هذه الدولة الفتية، بجمهوريةٍ معلنةٍ في عام 2008، وتحرّره من اضطهاد الحكم اليوغوسلافي، ثم الصربي، لا يعني بالضرورة الانتصار لشعبٍ آخر، احتلّت أرضه، وتشتّت منه لاجئون، هو الشعب الفلسطيني. لقد أقام شعب كوسوفو جمهوريّته التي لا يصل تعداد سكّانها إلى مليونين، بالاستقلال عن صربيا، وخسر 12 ألف مواطن في حربٍ شرسة، تشرّد في أثنائها 90% منه، ولم تنته في 1999 إلا بتدخّل عسكري أطلسي (إقرأ أميركي).
لا يلتفت أهل الحكم والقرار في كوسوفو إلى مبادئ الحق، ولا إلى قرارٍ لمجلس الأمن عمره 40 عاماً، يرفض إعلان (إسرائيل) القدس عاصمةً كاملةً موحّدةً لها، ولا إلى "أخوَّة إسلامية"، وإنما إلى رضا الولايات المتحدة، وإلى ما قد يُحسَب انتقاماً من أهل القرار في دولة فلسطين التي آثرت، وهي التي لم تتحقق، ألا تكون كما 11 دولة عربية، وتعترف بجمهورية كوسوفو، بل لا يوفّر المسؤولون الفلسطينيون مناسبةً لإسناد صربيا، الخصم (أو العدو؟) الدائم لهذه الجمهورية، من قبيل إعلان سفير فلسطين في بلغراد، قبل أكثر من عام، أن دولته ستعارض انضمام كوسوفو إلى الشرطة الدولية (الإنتربول). وكان هذا الرجل، في 2014، قد صرّح إن "كوسوفو كانت دائماً جزءاً من صربيا". والمرجّح أن ناس هذه الجمهورية لا ينسون دعوة السلطة الفلسطينية رئيس صربيا الأسبق، ميلوسيفيتش، إبّان الحملة العسكرية العنيفة على ألبان كوسوفو، إلى احتفالات عيد الميلاد للمسيحيين الأرثوذكس، في العام 2000 في بيت لحم (لم يمكنه تلبية الدعوة). ولعلها مقيمةً في مدارك الكوسوفيين (والكروات والبوسنيين ربما) تلك العلاقة الوثيقة بين يوغوسلافيا تيتو ومنظمة التحرير الفلسطينية، ما قد يفسّر امتناع الدول الناشئة (ومنها جمهورية كوسوفو) عن تفكّك يوغوسلافيا الآفلة تلك عن التصويت لصالح منح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة في العام 2012، باستثناء صربيا التي زارها محمود عبّاس في 2009.
ومن مفارقاتٍ وملابساتٍ في الصلة المضطربة بين دولة فلسطين، غير المتحقّقة، وجمهورية كوسوفو الماثلة، أن استقلال هذه يَعتدّ به مسؤولون فلسطينيون حجّةً لتحقيق الدولة المشتهاة، فيما يُؤثِر مسؤولون آخرون النأي عن مشابهة الحالتين (وهما بالطبع غير متشابهتين)، ففيما يتحمّس السفير الفلسطيني في بلغراد في مناوأة الجمهورية الغضّة (سلوك دبلوماسي بائس)، فإن عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير خمسين عاماً، ياسر عبد ربه (ما أخباره؟)، قال، غداة إعلان استقلال كوسوفو، إن الأخيرة ليست أحسن من الفلسطينيين الذين يستحقّون الاستقلال قبلها، ويطلبون دعم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيه. فيما رأى الراحل صائب عريقات إن الفلسطينيين ليسوا كوسوفو، فهم يحتاجون الاستقلال الحقيقي بإنهاء الاحتلال. أما موّال المسؤولين الكوسوفيين فمختلف، هم متيّمون بـ(إسرائيل). ومن ذلك قول القائد السابق في "جيش تحرير كوسوفو" ورئيس الوزراء السابق، راموش هاراديناي، إن دولة (إسرائيل) نموذجٌ جيدٌ ينبغي اتباعه. ولمّا زارت سفيرة كوسوفو في الولايات المتحدة، فلورا سيتاكو، (إسرائيل)، قالت إن شعب بلادها يتطلّع إلى (إسرائيل) مثالاً على كيفية بناء دولة.
إذن، ليس افتتاح سفارة كوسوفو في القدس المحتلة ناشزاً. سيما وأنه يأتي في غضون التحالف النشط بين الإمارات و(إسرائيل). ومن المستبعد تراجع الدولة المسلمة الصغيرة عن فعلتها، بعد تسلّم حكومةٍ جديدةٍ فيها قريباً، فتنقل السفارة إلى (تل أبيب)، فما بادر إليه رئيس باراغواي، ماريو بنيتيز، في 2018، لمّا صحّح سلوكاً شاذّاً أقدم عليه سلفه، وأعاد سفارة بلاده إلى تل أبيب، ليس موصولا بانعدام التباسات وخيارات فلسطينية خائبة، وإنما يتعلّق بقناعة الرجل بقانونٍ دولي، وهذه غير ماثلةٍ في كوسوفو بشأن القدس ودولة فلسطين.