قائمة الموقع

الشيخ أحمد ياسين.. أسطورة العصر الحديث

2021-03-22T11:45:00+02:00

من الصعوبة بمكان أن تجد قائدا أو رمزا أو شخصية فلسطينية تحظى بالإجماع الوطني الفلسطيني كما الشيخ الإمام الشهيد أحمد ياسين، فمن أدق المسلّمات التي لا يناقش في ماهيتها أحد، الإقرار بفضل وأهمية وعظم الدور التاريخي الذي اضطلع به الإمام الشهيد في حياة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية.

في الذكرى السابعة عشرة لاستشهاد الإمام المؤسس أحمد ياسين على يد سلطات البغي والإرهاب الصهيوني، نستذكر شيئا من مآثره الخالدة، وشذرات من دوره العظيم الذي غطى مساحات مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وتجاوزها لينثر عبقه الفواح في فضاء الأمة وقلوب أبنائها، في واحدة من أهم الملاحم الأسطورية التي خلّدها العصر الحديث.

مجدد الدعوة الإسلامية في فلسطين

شكَّل الشيخ أحمد ياسين –رحمه االله– ظاهرة فريدة من نوعها، فهو مدرسة كاملة يتتلمذ فيها الأصحاء والمعاقين على السواء، ويتعلمون فيها كيفية الانتصار على العجز البدني والضعف الصحي، وأن العجز الحقيقي هو عجز الإرادة وضعف اليقين.

إن اتساع دائرة الثقافة لدى الشيخ، وشمولها للثقافة الإسلامية واللغوية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والواقعية، مكنت الشيخ من كسب احترام الآخرين، ومن قيادة حركته والتأثير في واقع شعبه، لأن الجميع فيهم رأوا فيه الرجل العالِم المؤمن التقيّ الورع، الذي يبني رأيه على أسس متينة من الوعي والعلم والمعرفة، الأمر الذي يجعله جديرًا أن نعدّه مجدِّدا للدعوة الإسلامية في فلسطين خلال القرن العشرين.

لقد قـدم النموذج الرائع الذي جسده الشيخ الياسين عبر مسيرته الحافلة لأبنـاء فلسطين والأمـة دروسـا عظيمــة فــي الاســتعلاء بالإيمــان والثبــات عليــه، ونموذجًا فريدًا فــي الــشجاعة والتــضحية، فضلا عن قوة الإرادة ومـضاء العزيمـة، فحين سألوك: هل تخشى على حياتك من الموت بعد أن وضعك الصهاينة على رأس قائمة الاغتيالات؟ قلتَ مبتسمًا: "الأعمار بيد الله، ولو أننا نخاف الموت لما فعلنا شيئًا ولجلسنا في بيوتنا، إننا نتمنى أن نموت شهداء، فالشهادة هي عرسنا المنتظر، وعندما يأتي هذا العرس سيكون عيدًا لدينا وعقيدتنا، وأما وصيتك لإخوانك المجاهدين فقلتَ: جهادنا متواصل إن شاء الله، والصبر سلاحنا مع البذل والعطاء، لقد عاهدنا الله على هذه الطريق فإما الشهادة وإما النصر والتمكين".

بناء الفرد والأسرة والمجتمع

أدرك الشيخ ياسين مبكرا بأن مقاومة الاحتلال واستكمال مسيرة التحرير تستلزم قيام مجتمع متماسك تجمعه قيم إسلامية ووطنية هادفة، ويبدأ من إعداد الفرد المستقيم ومن ثم الأسرة المؤمنة، وصولا إلى المجتمع الصالح، لذا، عمل على إعداد جيل قرآني فريد ليكون نواة صلبة يعتمد عليها المجتمع في المشروع الإسلامي الكبير الذي يعدُّ تحرير فلسطين خطوته الأولى، وصولا إلى تحقيق نهضة الأمة وأستاذية العالم.

من هنا فقد أعطى الشيخ الياسين اهتماما كبيرا لمهمة تربية الأفراد وإعدادهم الإعداد السليم في المحاضن التربوية التي رعتها الحركة والدعوة، كما أعطى الأسرة مكانتها اللائقة في المجتمع، وعدَّ إصلاح الأسرة جزءا لا يتجزأ من إصلاح المجتمع، ليتمكن في نهاية المطاف من بناء مجتمع فلسطيني رائد ودعوة إسلامية عظيمة ملأت سمع وبصر العالم، وقلبت معادلات الإقليم والعالم.

بناء المؤسسات

اقتنع الشيخ ياسين بأن مشروع الإصلاح الذي كان يحمله لا بد أن يمرّ عبر كل مكونات المجتمع، بهدف خدمة الشعب وجميع شرائح المجتمع وتعزيز صمودها الوطني في وجه الاحتلال ومخططاته العنصرية، فأسس الجمعية الإسلامية عام 1976، والمجمع الإسلامي عام 1979، الذي اهتم بالمجالات التربوية والصحية والاجتماعية والرياضية، جاعلًا منه النواة الأولى للمجتمع، وأسهم في تأسيس الجامعة الإسلامية بغزة ومدارس دار الأرقم وغيرها، ولجأ إلى أسلوب بناء المسجد ضمن رؤيته لبناء الواقع المؤسسي والتربوي القادر على التغيير، كما عمل على تأسيس النقابات المشاركة فيها.

الوحدة الوطنية

آمن الشيخ الياسين بالوحدة الوطنية بتجلياتها واستحقاقاتها كافة، فكان له الدور الأعظم في التصدي لمحاولات الاحتلال الرامية إلى تفتيت الوحدة الوطنية الفلسطينية، ونسف الروابط العائلية والاجتماعية، محذرا أبناء الشعب الفلسطيني من الفرقة والانقسام، وجسد دروسا عملية في فن التمسك بالوحدة والعضّ على الجراح رغم الظلم الذي لحق به وأصاب الحركة، وخصوصا في مرحلة ما بعد تشكيل السلطة الفلسطينية التي فرضت عليه الإقامة الجبرية، والاعتقالات والاعتداءات التي تعرضت لها الحركة من طرف الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وبثّ في أوساط الناس مصطلحات جديدة لمواجهة واقع الاختلاف الوطني، فكان كثيرًا ما يردّد مقولة الإمام الشهيد حسن البنا: "سنقاتل الناس بالحب"، حيث لا مجال لاستخدام السلاح في الداخل الفلسطيني، فالبندقية الفلسطينية لا ولن توجه إلا لصدر الاحتلال.

من هنا، شهدت فترات الانتفاضتين (الأولى عام 1987، والثانية عام 2000) كثافة في دور ونشاط الشيخ ياسين في مجال تحقيق وتعزيز الوحدة الوطنية وتكريس الإصلاح الاجتماعي، وذلك سعيًا منه للحفاظ على بنية الحركة الوطنية الفلسطينية وتماسك النسيج الاجتماعي الفلسطيني في وجه الاحتلال.

ولم يكن غريبا مسارعة الشيخ الياسين إلى تأسيس لجان الإصلاح في كل المدن الفلسطينية لفض النزاعات وإعادة الحقوق إلى أصحابها في ظل أحلك الظروف.

المنطلقات والثوابت السياسية

أدرك الشيخ الياسين منذ البداية بأنّ القضية الفلسطينية هي قضية وطن ومبدأ وعقيدة لها في نفوس جميع العرب والمسلمين مكانة مميزة، كما أدرك بأن الصراع مع الصهاينة ذو طبيعة حضارية، وأن الكيان الصهيوني جاء ثمرة مشروع استعماري صليبي صهيوني يستهدف فلسطين والأمة العربية والإسلامية جمعاء، وكان كثيرا ما يؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي ليس عدوانا على الجغرافيا والحقوق السياسية والاقتصادية للأمة، بل هو عدوان على دين الأمة وتهديد وجودي للأمة ومقدراتها وحاضرها ومستقبلها، ومن ثم حرص على توثيق ارتباط القضية الفلسطينية بعمقها العربي والإسلامي لتوفير مزيد من الموارد والدعم العربي والإسلامي الذي يخدم الشعب الفلسطيني وقضيته، ويقرّب معادلة المواجهة من حدود التكافؤ مع الاحتلال.

وكان واضحا حرص الشيخ الياسين على مواجهة محاولات عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي تحت ذريعة وشعار الخصوصية القطرية والقرار الوطني المستقل، فتوجّه إلى قادة الأمة وأنظمتها وجماهيرها مؤكدا حقيقة عروبية وإسلامية فلسطين، وضرورة رفض المشاريع السياسية المناقضة لحقوقها وثوابتها، وأهمية دوام ارتباط الأمة بالقضية الفلسطينية ودعمها المتواصل في مختلف الظروف والمنعطفات.

المقاومة والعمل الجهادي

أدرك الشيخ الياسين منذ البداية أن تحرير فلسطين لن يتحقق عبر العمل السياسي والمبادرات السياسية في ظل اختلال موازين القوى لصالح الاحتلال، والبيئة الإقليمية والدولية المساندة للاحتلال، وهذا ما دفعه إلى تبني فكرة الصراع والمواجهة التي بدأت في الجهر بالمواقف المناهضة للاحتلال منذ بداية احتلاله الضّفة الغربية وقطاع غزة في سنة 1967، وتحريض الناس على عصيان أوامر سلطات الاحتلال، مرورا بتشكيل أولى المجموعات والتشكيلات العسكرية في مطلع الثمانينيات، وصولا إلى تأسيس حركة حماس وجهازها العسكري "كتائب الشهيد عز الدين القسام" التي رفعت راية الجهاد والمقاومة على أرض فلسطين، ومارست العمل الجهادي المقاوم بكل أشكاله في مواجهة الاحتلال، وقدمت الشهداء والجرحى والأسرى وأنهارا من التضحيات فداء لفلسطين وشعبها العظيم وقضيتها المقدسة.

وكان لافتا الاهتمام البالغ للشيخ الياسين بتطوير قدرات كتائب عز الدين القسام القتالية، وحرصه على الارتقاء النوعي للعمل الجهادي المقاوم على أرض فلسطين عبر دعم كل التشكيلات والفصائل المقاومة بالمال والسلاح، حتى غدت كتائب القسام قوة عسكرية كبيرة حققت توازن الردع، ويهابها الأعداء، ويشير إليها العالم بالبنان.

المرونة والانفتاح

تميز الشيخ الياسين بالمرونة السياسية والانفتاح الكبير على الواقع الفلسطيني الداخلي بمكوناته المختلفة، وعلى الرأي العام العالمي، حيث شكل سلوكه الوطني إطارا وحدويا جامعا للكل الوطني الفلسطيني، ركز من خلاله على برنامج القواسم المشتركة وتحييد الخلافات، ليتمكن من حفظ الجبهة الداخلية من ويلات التناحر الداخلي وتوحيد الصف الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال ومشروعه العنصري.

كما توجه الشيخ الياسين بخطاب إنساني رصين إلى الرأي العام العالمي شرح فيه مظلومية الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، مذكرا بالالتزامات الدولية الواردة ضمن ثنايا القرارات والمواثيق والقوانين الدولية التي تحضّ على احترام حرية الشعوب وحقوق الإنسان، وفي مقدمتها حقه في مقاومة الاحتلال وتقرير المصير.

الشورى ملزمة

علَّمتَنا يا شيخنا كيف يُتخذ القرار بالشورى، فحين زادت وتيرة الانتفاضة ضد اليهود، قالوا لك: يا سيدي الشيخ، نريد أن تتدخل لحل هذه المشكلة ونعلن الهدنة. فقلتَ: أنا لا أستطيع أن آخذ قرارًا وحدي، بل سأعرض الأمر على مؤسسات الحركة فهي صاحبة القرار.

وختامًا.. فإن حياة الشيخ الإمام أحمد ياسين جسدت كل القيم والمعاني الإنسانية والأخلاقية والوطنية، وأنتجت نموذجا رائدا وخلاقا لبناء وطني فلسطيني قائم على الوحدة الوطنية والتفاهم المشترك، وحالة فكرية وثقافية وتربوية واجتماعية راشدة، ومعادلة صلبة وراسخة في مقاومة الظلم والعدوان والاحتلال، محرضا شعبه وأمته على القيام بواجباتهم الوطنية والدينية والتاريخية لنصرة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

ليستحق الشيخ الياسين أن يتربع على كرسيه المتحرك رمزا وطنيا عظيما في شعبنا الفلسطيني، وإماما لأمتنا العربية والإسلامية.

فقد خرج الشعب الفلسطيني في غزة أكثر من نصف مليون غزي شاركوا جنازة الشيخ أحمد ياسين، وخرجت جماهير الأمة يوم استشهاده من طنجة إلى جاكرتا، وفاء لهذا الرجل العظيم الذي أحيا أمة، وقاد حركة وشعبا في أحلك مراحل وتحديات العصر الحديث، وذكرت مصادر إعلامية أن أكثر من 11 مليون إنسان خرجوا في جنازة الشيخ أحمد ياسين، وأن أغلب مساجد العالم الإسلامي والعربي صلّت عليه صلاة الغائب في يوم الجمعة 26/3/2004م.

رحمك الله يا شيخنا وأسكنك فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.

رحمك الله شيخنا الجليل، وألحقنا بك شهداء على درب الأنبياء والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

اخبار ذات صلة