شكّلت عودة عشرات الكوادر والقيادات الفتحاوية مؤخراً إلى قطاع غزة بعد خمسة عشر عاماً من الانقسام خطوة متقدمة نحو إتمام الوحدة الوطنية وطي صفحة الماضي وإنجاز ملف المصالحة المجتمعية، خاصة بعد الانتهاء من جبر الضرر والتسوية العشائرية والقانونية التي شملت أكثر من مائة وخمسين عائلة من عوائل ضحايا الانقسام، وإقرار تلك العوائل بالمصالحة المجتمعية بحضور قيادات حركتي فتح وحماس في غزة.
من المؤكد أن عودة كوادر التيار الإصلاحي لحركة فتح تمت وفق تفاهمات مع حركة حماس، وهي خطوة طبيعية ومُنتَظرة بعد الانتهاء من المعالجة المجتمعية لملف ضحايا الانقسام، وهي تشير إلى رغبة حركة حماس في بناء مستقبل أفضل للجيل الفلسطيني، وأنها طوت إلى غير رجعة صفحة الخلافات الدموية السابقة مع حركة فتح.
كما أن ترحيب حماس بعودة كوادر فتح يعكس رغبتها في بناء شراكة وطنية حقيقية بعيداً عن التفرّد والهيمنة والإقصاء، وهي الحالة التي تعيشها الضفة المحتلة منذ خمسة عشر عاماً في ظل تفرّد السيد محمود عباس بالقرار الوطني، وإقصائه جميع خصومه السياسيين بما فيهم قيادات وكوادر حركة فتح ذاتها بذرائع ومبررات واهية، كما حدث سابقاً مع القيادي في الحركة محمد دحلان كما يحدث اليوم مع عضو اللجنة المركزية في حركة فتح ناصر القدوة.
مشهد الترحيب بقيادات فتح القادمة لغزة يشير إلى أن غزة باتت تشكّل واحةً للحرية السياسية، حيث يُتاح فيها لكل القوى الفلسطينية بما فيها التيارات التنظيمية المتنازعة داخل حركة فتح بإقامة فعالياتها وأنشطتها التنظيمية والوطنية برعاية حركة حماس، التي تَبرُز يوماً بعد يوم أنها الفصيل الفلسطيني الأكثر احتضاناً للآخرين، والأقوى سياسياً وتنظيمياً، خاصة بعد انتهائها من انتخاب مكتبها السياسي في غزة دون حدوث مشكلات تعكّر صفو العملية الانتخابية.
رسالة مهمة تُسطّرها غزة اليوم بتهيئتها الأجواء العامة للانتخابات، واحتضانها الكلّ الوطني، وهي تأمل على أعتاب الانتخابات أن ترى صورة مشابهةً في الضفة المحتلة، حيث ما زالت حركة حماس محظورة سياسياً، وملاحقة ميدانياً، وتُمنَع من إقامة أنشطتها وفعالياتها بفِعل عقلية الإقصاء والتنسيق الأمني الذي ما زالت تتمسك به أجهزة السلطة الفلسطينية بقيادة السيد محمود عباس.
كما أن حماس ترسل أيضاً رسالة خفية لعباس، بأن خياراتها السياسية متعددة، فهي مستعدة للالتقاء بالجميع بمن فيهم القيادات الفتحاوية المنافسة لعباس، وهذا ما عبّر عنه عضو المكتب السياسي للحركة صلاح البردويل حين أكد ترحيب غزة بالسيد ناصر القدوة الذي أقصته فتح من أطرها التنظيمية نتيجة الخلافات الداخلية التي تعيشها الحركة.
تأتي عودة الكوادر الفتحاوية إلى غزة لتُؤكد حق المواطن الفلسطيني بالحياة فوق أرضه ما دام أنه التزم بالقانون والنظام العام، وإنني هنا أستبعد تماماً إقدام أيٍّ من العائدين لغزة على مخالفة القانون، كونهم يدركون تماماً حالة الاستقرار الأمني الذي حققته غزة بالدماء، وقدرة أجهزة المقاومة على إجهاض أي خطوة قد تمسّ أمن المواطن الفلسطيني في المستقبل.
من المهم أن ندركَ جميعاً أن الاختلاف في الرؤى السياسية والفكرية هي حالة طبيعية تعبر عن حرية سياسية وفكرية في المجتمع، وأننا ما دمنا ارتضينا صندوق الانتخاب وسيلة للحكم في فلسطين فعلينا جميعاً أن نستمع برحابة صدر للرأي والرأي الآخر، وأن نتيح المجال للجميع لممارسة دورهم السياسي في المجتمع الفلسطيني، وعلينا طي صفحة الخلافات الدموية الماضية، وعدم الوقوف على أطلال الماضي الأليم.
نصيحتي لإخواني كوادر التيار الإصلاحي القادمين إلى غزة بضرورة إعادة بلورة مشروعهم السياسي الوطني ليكون داعماً ومؤازِراً لمشروع المقاومة التي احتضنها أبناء شعبنا، فالفشل السياسي الذريع الذي حققته حركة فتح بفِعل تبنيها خيار أوسلو طيلة العقود الماضية أوصل شعبنا إلى الانقسام السياسي، كما أضحت السلطة الفلسطينية مجرد أداة تنفيذية لرغبات وقرارات حكومة الاحتلال، دون قدرة حقيقية على بناء الدولة أو تحرير الأرض أو مواجهة الاستيطان.
كما إنني أدق ناقوس الخطر من الاعتماد الكامل على المساعدات والأموال الإماراتية في إعادة بناء الأطر التنظيمية والسياسية للتيار، فالدور الإماراتي العلني بات معادياً للشعب الفلسطيني، وأضحى التحالف الإماراتي الإسرائيلي يشكل خطراً على القضية الفلسطينية، في ظل إعلان الإمارات عن تأسيس صندوق استثماري بقيمة عشرة مليارات دولار لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين، وتشجيعها مختلف الأنظمة على التطبيع العلني مع كيان الاحتلال.