أتذكر في سنوات الطفولة التي ارتحلت فيها برحلة سفر مع عائلتي بسيارتنا الخاصة، وكان الأمر يتطلب ساعات طويلة جدًّا لبعد المسافات، وذلك كله كان في فصل الصيف حيث درجة الحرارة المرتفعة جدًّا، الأمر الذي كان يحتاج إلى التزود بماء أكثر من التزود بالوقود.
بعد مسافات طويلة أوقف والدي رحمه الله تعالى السيارة لشراء الثلج حتى يحتفظ ببرودته لزمن أطول، وبعد ترتيب الأمر واستكمال الرحلة الطويلة، وقطعنا مسافات طويلة جدًّا، أوقف والدي السيارة، ذلك جعل والدتي رحمها الله تعالى تسأل إن كان حدث شيء أدى إلى هذا التوقف الذي ليس في محله.
والدي لم يتكلم في ذلك الوقت، إنما أعاد بسرعة تشغيل السيارة والرجوع إلى مسافات طويلة قد قطعت سابقًا، وكان السبب وراء ذلك أنه قد نسي أن يدفع ثمن الثلج.
ومع أن ثمنه كان زهيدًا جدًّا، لكنه حق يتعلق بالذمة، ويخشى أن يُسأل عنه يوم القيامة، فالعودة والبحث عن بائع الثلج لدفع الثمن أهون بكثير من أن يتعلق ثمنه بذمته.
وبالفعل عُثِر على بائع الثلج الذي استغرب لأجل هذه العودة من أجل أن يدفع له دنانير معدودة جدًّا.
هذا المشهد مضى عليه سنوات طويلة جدًّا، كنت في سنوات صغيرة لا أعي ماذا يعني حق الغير، والأمانة والحلال والحرام، لكنني فهمتها عمليًّا بفعل والدي.
تعلمت أن أخاف الله تعالى، تعلمت أن مثل هذا الفعل يقول للغير: الدنيا لا تزال بخير، تعلمت رد الحقوق للآخرين مهما كانت في نظرنا صغيرة، تعلمت أن أحافظ على حقوق الغير خاصة الفقراء والبسطاء، تعلمت الكثير من هذا المشهد الذي علق في ذهني إلى الآن.
تعلمت من سعادة والدتي وهي توافق والدي على فعله، بل تحثه على ذلك رغم المسافات الطويلة في حر الصيف على طريق السفر، والحاجة للإسراع قبل غروب الشمس حتى نجد أقرب مكان للمبيت إذ من المحال السير في الليل في مثل هذه الأماكن، تعلمت بذلك معنى مساندة الحق والتشجيع عليه.
إذا أردت أن تعلم طفلك اترك النظريات، ومفاهيم تربية الطفل المعاصرة، والبرامج والكتب الكثيرة التي تتحدث عن ذلك.. طفلك لا يحتاج إليها بقدر احتياجه إليك، فهو يسير على نفس خطوات أقدامك ويفعل الذي تراه عيناه من أفعالك، فعلمه الخوف من الله تعالى، والصلاة، وقول الصدق، والأمانة، والخلق الطيب، والصدقة بتصرفاتك.
رحم الله (تعالى) قارئًا دعا لي ولوالدي بالمغفرة "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (يوسف:21).
