فلسطين أون لاين

استولى الاحتلال عليه في "الشيخ جراح" ولا يزال يلاحقها

تقرير المقدسية "الكرد".. رفضت التنازل عن بيتها بـ"مال الدنيا"

...
صورة أرشيفية
القدس المحتلة-غزة/ يحيى اليعقوبي:

محامٍ إسرائيلي يعرض "مبلغًا ماليًّا فلكيًّا" كما يقول الناس، ويسأل: "أم كامل؛ ما رأيك بدلًا من أن يرموكِ في الشارع تبيعي بيتك بـ10 ملايين دولار؟".. هدأت فوزية الكرد للحظة اعتقد السائل فيها أنه حقق مراده قبل أن تدوي صرختها في المكان: "تراب بيتي في القدس بسوى مليارات العالم"، ثم أتبع العرض زيارة من وزير سياحة الاحتلال إلى منزلها يعرض عليها شيكًا بأن تضع مبلغًا ماليًّا بنفسها، لكنها مزقت الورقة أمامه.

لم تمضِ أكثر من عدة أيام إلا وكانت قوة كبيرة من جيش الاحتلال في قلب منزلها الواقع في حي الشيخ جراح بمدينة القدس المحتلة، تريد إخلاءه بالقوة بعدما فشلت كل مغرياتهم.

محاطة بعشرات الجنود المعززة بالآليات العسكرية، ودَّعت فوزية التي تُكنى بـ"أم كامل" منزلها، والدموع تتساقط من عينيها، ولا يزال ذلك الموقف يلسع قلبها كلما مرت من أمام منزلها وهي ترى مستوطنًا دخيلًا يقف على شرفته، في حين صاحبة المنزل لا تملك دخوله أو حتى إطالة الوقوف أمامه لتبريد شوقها إليه، في مشهد كفيل بزيادةِ أوجاعها.

لحظة وداع

تشدُ بقايا الموقف من روزنامة تلك الأيام والذكريات، كمن يسحبُ دلوًا من عمقِ بئر جوفية، في الأثناء كانت صحيفة "فلسطين" تستمع لصوت الحزن المتيبس على قلبها: "ربطت على قلبي وأنا أخرجُ من المنزل، كنت كمن تخرج روحه من جسده، لم أصدق أن أعيش لحظة يجبرني فيها غريبٌ على الخروج من منزلي مكرهةً بغير إرادتي، أُقاد إلى الخارج أنا وأبنائي مقيدين، من شدة صعوبة الموقف علينا توفي زوجي لاحقًا فلم يحتمل توديع بيته".

خيمة قماشية كانت مأوى العائلة لعامٍ كامل، لم تكن الفصول أربعة هنا، فقد كان فصل الوجع والقهر الذي ظل يرافقها أشد وطأة من كل الفصول، تحملت وهي تلتحف السماء برد الشتاء وحر الصيف، آملةً أن تعود إلى بيتها، لكن صوتها الذي أرادت أن يصل إلى العالم لم يحرك "ضمائر ميتة" في نظرها، فظلت الخيمة القماشية تبتلع صدى صوتها وهو يرتد إليها خاويًا بلا نصير.

في الكواليس أصوات جرح نازف في قلبها: "سأقول شيئًا، صحيح أنني رفضت العرض المالي، والآن بعد نحو 12 عامًا أعاني أشد المعاناة، إذ أسكن في بيتٍ بالإيجار وأدفع شهريًّا نحو 1500 دولار لسدادِ أجرته، وبالكاد يتبقى لدينا ما يسد رمقنا، لكنني فخورة بنفسي أنني لم أتنازل عن حقي في أرضي، وسيأتي اليوم الذي أعود إليه معززة مكرمة".

غريب سارق

"أؤمن أن المستوطن الذي يجلس في بيتي الآن بحماية من جيش الاحتلال سيخرج".. هذه ليست أمنية تحلم بها أم كامل، بل حقيقة تدرك أنها ستتحقق، وهذا ما يجعلها تصبر على ما هي فيه.

أم كامل التي أبعدت عن حي الشيخ جراح، ظلت ترابط في المسجد الأقصى ثلاثة أيام أسبوعيًّا، فهذه المقدسية الستينية التي أدركت وعاشت قسوة الإبعاد عن منزلها تدرك أطماع الاحتلال، تضيف: "صحيح أنني أبعدت عن منزلي، لكنني سأبقى مرابطة في الأقصى، فهذا المكان يعيش في وجدان كل فردٍ منا، وإن صادر الاحتلال منازلنا فلن نسمح له مصادرة أقصانا مهما بلغ الثمن".

تنفث الأسى عن جراحها بموقف لم يُمح من ذاكرتها في حوارها مع المستوطن الذي يسكن بيتها: "أمر كل شهر من أمام بيتي كلما اشتقت لرؤيته، وفي إحدى المرات أطلتُ الوقوف أمامه، على الرغم من إدراكي أن هناك كاميرات مراقبة في المكان، فجاءت شرطة الاحتلال وخرج المستوطن من المنزل".

المستوطن يطردها: "ليش جاي هون.. روحي"، تخبره بالحقيقة التي يحاول إنكارها: "هذا بيتي"، لكن المستوطن الذي تعود على سرقة كل شيء لا يملكه، ليس غريبًا عليه عدم الإقرار بالحقيقة: "هادا مش بيتك وكل فلسطين النا"، فغادرت المكان والحسرة في قلبها.

تستحضر صورة ذلك المستوطن معلقةً: "الحسرة في قلبي منذ 12 عامًا، كل حياتك تكون في بيتك، وفي النهاية تجد نفسك في الشارع، والسارق يعيش فيه".

رزمة معاناة تعيشها عائلة الكرد اليوم، تنهدت القهر الذي يعتمل صدرها: "أتدري؟ اليوم فقط استطعت الحصول على ورقة تثبت أني مواطنة فلسطينية أعيش داخل القدس المحتلة، فمنذ عام 2009 أعيش في صراع قضائي لأجل الحصول عليها، تخيل الواقع الذي نعيشه، الاحتلال يحاول طردنا بكل الطرق".

أم كامل وأولادها الأربعة وأحفادها الذي ناهز عددهم ثمانية عشر، أصبحوا مشردين بعدما أُخلي منزلهم بالقوة، يسكنون في بيوت بالإيجار في منطقة "كفر عقب"، أجبرها الاحتلال على دفع غرامات تصل إلى نصف مليون شيقل، ولا يزال يلاحقها على ثباتها.