قل أن تجد كاتبًا صهيونيًّا يمارس بفجاجة دور الواعظ في الحديث عن مناقب دولة الاحتلال وضرورة التطبيع معها، وهو أعمى عن حقوق الفلسطينيين، وجرّده ولاؤه الأيديولوجي للصهيونية من أي قيمة أخلاقية أو ذرّة ضمير، فلا مشكلة له أبدًا مع جرائم المستبدين، ولا المحتلين، كل شيء يحلّ، وتغفر جميع الذنوب، عند التطبيع مع شعب الله المختار، هذا الكاتب هو الذي روّج مبادرة السلام العربية الإسرائيلية، ولا شك أن ملك السعودية الراحل عبد الله بن عبد العزيز استخدمه لترويجها، وأوهمه كأنها من إلهامه، تقوم على مبدأ بسيط، وهو التطبيع مقابل السلام، وهي تمامًا عكس ما يروّج الآن عن اتفاقات أبراهام التي تقوم على مبدأ التطبيع مقابل التطبيع، بعيدًا عن الوعظ الصهيوني، فكلفة التطبيع بين السعوديين أقل من كلفته مع عدو الأمة، ليس وقت المزاودة على السعودية، فلا يوجد بلد عربي غير تونس حقق تحولًا ديمقراطيًّا، لكن الإصلاح السياسي التدريجي هو الذي يحصّن الجبهة الداخلية في مواجهة ضغوط الإدارة الديمقراطية في واشنطن، ومواجهة طموحات إيران التوسعية، وفوق ذلك يستجيب لطموحات ملايين الشباب السعوديين وأشواقهم.
يقول فريدمان: "تحتاج الإمارات والبحرين والمغرب والمملكة العربية السعودية إلى فهم أن لديهم نفوذًا أكبر الآن، للتأثير في العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، أكثر مما يدركون، (إسرائيل) لا تريد أن تفقدهم، تخيل لو وافقت المملكة العربية السعودية على الانضمام إلى اتفاقات أبراهام، ولكن شرط أن تفتح سفارة السعودية لدى (إسرائيل) في القدس الغربية الإسرائيلية، وتفتح في الوقت نفسه سفارة للفلسطينيين في حي عربي بالقدس الشرقية"، ويقفز مباشرة إلى مبادرة السلام العربية، وكأنها جزء من اتفاقات أبراهام: "إن مجرّد خطوة واحدة من شأنها أن تساعد في الحفاظ على إمكانية التوصل إلى اتفاق قائم على دولتين، وستنشط مبادرة السلام السعودية لعام 2002، وستزيد من عزلة محور الفشل الإيراني، وستجد (إسرائيل) صعوبةً بالغة في الرفض، إنني أحترم القلق الذي يشعر به بعضهم من أن صنع المملكة السلام مع (إسرائيل) يمكن أن يكون وسيلة لإعادة تأهيل محمد بن سلمان، لكنني لا أعتقد أن هذا سبب لمعارضته، في الشرق الأوسط غالبًا ما يحدث التغيير الكبير عندما يفعل اللاعبون الكبار الأشياء الصحيحة لأسباب خطأ".
بعيدًا عن وعظ توماس فريدمان الممل، ومحاولات ابتزاز السعودية بالتطبيع، كتب السيناتور الديمقراطي كريس مورفي، في "فورين أفيريز"، وهو من صانعي السياسة لدى فريق بايدن، عن انسحاب أمريكا من المنطقة، داعيًا دول الخليج إلى الاقتداء بالنموذج الكويتي، محذّرًا من أن تفوق النمو السكاني على عائدات النفط واستمرار القمع سيؤديان إلى اندلاع "عاصفة من الاضطرابات الكارثية"، ولا شك في أن التطبيع مع (إسرائيل) في غيها وعدوانها سيضاعف حجم العاصفة ويسرّعها.
في النهاية، توماس فريدمان منسجمٌ مع نفسه، ومخلص للصهيونية، ويسعى إلى مصالحها بعيدًا عن مصلحة أي بلد عربي، الطريف أنه في اليوم الذي نشر فيه مقال فريدمان، المبشر بالتطبيع، ذكّرني "فيس بوك" بمرور ثلاث سنوات على مقال جمال خاشقجي (رحمه الله): "ما الذي يمكن أن يتعلمه ولي العهد السعودي من الملكة إليزابيث الثانية؟"، وفيه: "إذا ما تمكن محمد بن سلمان من الاستماع إلى منتقديه، والاعتراف بأنهم هم أيضًا يحبون بلادهم، فسيكون بإمكانه بالفعل تمكين سلطانه"، أن يستمع محمد بن سلمان لجمال خاشقجي اليوم سيكون الدية التي ترضيه في قبره، تمامًا كما ترضي ملايين الشباب السعوديين الذين عبّر عن أشواقهم.