لم يفق الأردنيون من محاولة فهم رسالة الملك عبد الله الثاني إلى مدير دائرة المخابرات العامة، أحمد حسني، التي وعدت ضمنيًّا بوقف التدخل الأمني في الحياة السياسية بالأردن، حتى نزلت عليهم صاعقة دعوة الأمير الحسن بن طلال الإسرائيليين إلى إكمال مسيرة "السلام بين الشعوب" التي تبدأ من الأسفل إلى الأعلى، من دون ذكر الاحتلال أو القضية الفلسطينية، وكأن المسألة لا تتجاوز خلافات حدودية وصراعات دينية.
دعا الأمير بكل صراحة إلى إحياء فكرة "البينولكس" التي اتفق عليها عمّ والده الملك فيصل الأول (توفي في 1933) مع رئيس المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان (أول رئيس لدولة (إسرائيل) لاحقًا) عام 1919، بين الأردن وكل الأراضي التي يعيش بها مسلمون ومسيحيون ويهود، لتنظيم تعايشٍ لا يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، بل حلًّا "للمسألة الفلسطينية"، وبالأصح لأزمة (إسرائيل) بوجود فلسطينيين في الأرض التي اختارتها الحركة الصهيونية لإقامة مستعمرتها العنصرية، وكأن عقودًا من النضال الفلسطيني لم تكن، وشُطبت بجرّة قلم.
اللافت في رسالة الأمير الحسن التي نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن كاتبها مثقف يمتاز بالعمق، ويعي أبعاد المعاني التي تضمنتها دعوته، إذ قال إن المسيرة يجب أن تبدأ باتفاق على مشاركة مصادر المياه وتقاسمها، إضافة إلى أن لهجة الرسالة وضعت (إسرائيل) في مصاف أي دولة في المنطقة، بما يتجاوز معاهدة وادي عربة التي وقعها الأردن مع (إسرائيل) عام 1994، وهي المجحفة بحق الأردن أصلًا، إلى تقديم خطّة لاندماج (إسرائيل) في المنطقة، وكأنها دولة أصيلة، لم تُبنَ على الاستعمار الإحلالي المستمر وبوحشية ضد الفلسطينيين، ولا تشكّل خطرا إستراتيجيًّا على أمن الأردن واستقراره ومستقبله؛ ومبعث الاستغراب هنا أن كاتب الرسالة رجلٌ، كما أعرف جيدًا، درس الصهيونية وملم بالقانون الدولي والإنساني، وهذا أخطر ما في الموضوع.
السؤال الأهم ما موقف الملك عبدالله الثاني؟ لا يمكن أن يكون ولي العهد الأردني الأسبق قد فكّر برسالة كهذه من دون علمه، وقد تكون بالون اختبار لردة فعل الإسرائيليين والأميركيين أنفسهم، يقرّر في إثرها الملك تبنّيها رسميًّا أو تجاهلها، ولكن حتى لو كانت كذلك، فإنها أسست لروايةٍ خطرةٍ، تضرب حقوق الأردن والفلسطينيين معًا، فإذا تخلّى الأردن الرسمي عن رواية النكبة والاحتلال وسرقة مياه الأردن وكل الجرائم التي ارتكبتها (إسرائيل)، فلن يبقى إلا التجبّر الإسرائيلي، ويفقد الأردن أي قدرةٍ على الاستنجاد بالقوانين والمواثيق الدولية، صحيح أن الأمير يدعو إلى حلول تعتمد على أسس القانون الدولي، لكن خطته تتخلى مسبقًا عن هذه الأسس، بدعوتها إلى مشاركة (إسرائيل) الغاز والنفط والمياه، أي يعطي ضمنيًّا (إسرائيل) الحق في المصادر الطبيعية والثروات بالأراضي التي احتلتها والتي لم تحتلها، فضلًا عن أن الرسالة تبرئ (إسرائيل)، في الدعوة التي تتضمنها إلى وقف تبادل اللوم "بين الطرفين"، وهذا تعبير نسمعه عادة من المسؤولين الأمريكيين بغرض حماية (إسرائيل) وعدم معاقبتها أو الضغط عليها، أي أن إدانة مصادرة الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات، وهدم البيوت وتهويد القدس، تصبح جزءًا من "لعبة تبادل اللوم"، وبالتالي مضيعة للوقت!
يقترح الحسن بن طلال حلًّا على أساس إقامة الدولتين، الإسرائيلية والفلسطينية، في وقت أصبح واضحًا، منذ زمن، "الدولة الفلسطينية" التي قد تقبلها (إسرائيل)، كيانًا ممسوخًا ومعزولًا من دون سيادة، تتحكّم (إسرائيل) بمنافذه وسمائه وما تحت الأرض وفوقها، وليس تعبيرًا عن حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، ويعني شطب كل الحقوق التاريخية والقانونية، وأهمها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والسؤال هنا: لماذا يقبل الأردن إعطاء هدايا مجانية تزيد إضعاف موازين القوى المختلة أصلًا؟! كيف يمكن دعوة الأردن الفلسطينيين إلى التخلي عن كل أوراقهم، وبعد ذلك نتحدّث عن حل يقبله الفلسطينيون، إلا إذا كان لا مكان لرأي الفلسطينيين أصلًا؟!
وماذا تعني جملة "تقسيم القدس مع مراعاة الديانات الإبراهيمية (الإسلام واليهودية)" من دون ذكر المقدسات المسيحية؟! هل يعني الاعتراف بـ(هيكل سليمان وحائط المبكى)، ووضع المقدسات الدينية -ومنها المسيحية- تحت إشراف السلطات الدينية؟ وماذا عن السيادة على القدس؟! والقدس ليست بمقدساتها فحسب، بل أيضًا بأهلها الذين يمارس عليهم تطهير عرقي يومي لتهجيرهم وتهوديها، أو أن هذا كلام يعيق "السلام المطلوب"؟!
الأغرب أن تتبنّى شخصية في مستوى الأمير الحسن بن طلال دعوة إلى "تجديد شباب القيادة الفلسطينية" في سياق شَرطِي لوجودها في القدس، أو ما تسمح به (إسرائيل) من أرض القدس، هل عدنا إلى محاولات إيجاد قيادة فلسطينية بديلة تقبل هذا السيناريو؟ للتذكير: تجديد شباب القيادة الفلسطينية بحرية سينتج قيادةً لن ترضى الخنوع، فلا عودة إلى روابط القرى، فالقيادات الفلسطينية الشابة، والعربية المؤمنة بالقضية الفلسطينية، تعي حقوق الشعب الفلسطيني، ولا تقبل الانصياع أو الحلول الهزيلة والذليلة، والأمير يعي تمامًا درجة وعي الشباب الفلسطينيين والعرب الذين ما زالوا متمسّكين بالقضية الفلسطينية، إلا إذا كان الحديث عن قيادات شابّة على قياس ما تريده (إسرائيل)، فبغض النظر عن نيات الأمير -وأعتقد أنه يريد حماية الأردن والنظام- لماذا يمكن التصديق أن (إسرائيل) التي أصبحت أشدّ عنجهية (خصوصًا مع معاهدة التطبيع التحالفي مع الإمارات وغيرها) قد تقبل أي حل يضمن استقرار الأردن؟
قبل مدة دعت ورقة سياسية للصهيوني الأمريكي، ديفيد ماكوفسكي (وهو من المؤثرين في واشنطن) إلى ضم الأردن إلى صفقة تطبيع جديدة مع السعودية، تضمن مكاسب اقتصادية ومالية له، لتسقط تحفّظه على كل ما رفضه الملك عبد الله الثاني سابقًا بخصوص القدس، ويعتقد القائمون على معهد واشنطن للشرق الأدنى (وهو صهيوني) أن الأردن يستشعر أن المعاهدات مع الإمارات وغيرها استبعدته من المكاسب وفرص لاستثمارات، وبعد قراءة رسالة الأمير يتضح أن أوساط الدولة الأردنية تتفق مع فهم ماكوفسكي، ومنزعجة، فالرسالة تتحدّث عن صفقات أنابيب غاز ونفط في معاهدات التطبيع حُرمت فوائدها الأطراف والشعوب، وأن أي مسيرة لتحقيق سلام شامل يجب أن تضمن توزيع هذه المصادر من مياه وثروات وإيراداتها على الجميع، بمعنى أن عملية إدماج (إسرائيل) في المنطقة هي شرط الازدهار والتقدّم لدول المنطقة وشعوبها.
جاءت رسالة الأمير الحسن بن طلال إلى الإسرائيليين، التي نشرت في "يديعوت أحرونوت"، وسط جدل أردني بشأن رسالة معلنة من الملك عبد الله إلى المخابرات العامة، يطلب منها البقاء في اختصاصها، ما يعني انسحاب الأجهزة الأمنية من التدخل في الحياة السياسية، ثم جاءت رسالة ولي العهد الأسبق لتعمق الشكوك في أن "العملية الإصلاحية" ليست أكثر من ترتيبات للدخول في صفقة جديدة مع (إسرائيل)، والكلام الفصل لدى الملك.