يُقال إن تاريخ أي أمة يكون بمجموع سيَر قادتها وعظمائها، والتي تُنقَل عنهم وتدوِّنها سطورٌ وكلمات، فكيف إذا كان تاريخنا الفلسطيني بميراثه الوافر وحُظْوته الكبيرة برواياتٍ تُتَناقلُ وأحاديثَ تُروى عن جيلٍ فريدٍ أصاب من صنفِ العظماء ما لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض أن يغطِّي حقيقته أو يطمس وجودها؟!
لأنها ببساطة شديدة جاءت لتخبرنا عن هؤلاء الذين انبعثوا قدرًا جديدًا يغيِّر وجه الزمان العبوس.
هم فتية من طراز خاص.
صُنعوا على عين الله بلا منازع.
تسامَوْا عن كل دون الأرض.
انخلعوا من علائقها وأوحالها ودسائسها ومستنقعات شهواتها.
فتفجَّرت في دواخلهم براكين الانعتاق ورُخَص الاستكانة للتراب.
ارتفعوا عاليًا.
تعجز عن وصف مكانتهم الشروح، وتُنبِيك مواقفهم وخلائل صفاتهم، عن عجيب هذا الأثر الذي تركه في نفوسهم حب الجهاد نهجًا وسلوكًا، فكان صافيًا زُلالًا لم يتسلل إليهم خَبث النفاق، كالسيل يقذف زبد الوهن، ويترك النفوس صافية بثوبها الحقيقي ممحَّصة خالصة. يعتريني بحق شعور بالخجل إذ أكتب عن رجال خطّوا سطورهم بمداد الدماء.
فما قيمةُ الحبرِ كُله في حضرة الدفقة الأولى؟ وما بلاغة المعاني إذ تشكلها الحروف إن تراءى لعينيك يومًا شموخ القمم السامقة؟
لكنها أمانة ألقيها عن عاتقي وخواطر أجلُّ.
ما أريد منها أن أنال ما ينال المريد، يوصل للناس بركات شيخه وأوجه إحسانه، ثم هي إعادة تموضع لصورة أضحت شوهاء بفعل رقود الأيام وهدأة غبار الميدان، فلعل هذي السطور تكون في هذا الزحام شواخص تذكير بمن سبقوا، فلا تضلُّ بنا السُبل أو تعثر بنا الأقدام.
لا أكون مبالِغًا إن قلتُ: إنَّ من شَرُفت برفقتهم كانوا سفراء من زمان غير هذا الزمان.
كانوا بيننا، لكنهم لم يكونوا معنا.
الحديث معهم ليس كأي حديث، صفاء عيونهم وطهر قلوبهم وقوة ساعدهم تقول لك الكثير.
إخلاص نيَّتهم، وصدق توجههم، وعزيمة نفوسهم، أشياء تفسِّر لك عيانًا المراد بقول الله: "من المؤمنين رجال"، وكأني بهم قد ولدوا يوم ولدوا كبارًا؛ ليصنعوا لنا التاريخ ويصحِّحوا لنا المسار، فتدور دورة الأيام ليزدادوا قدرًا كلما ازدادوا عُمرًا.
طلَّقوا الدنيا وأقبلوا يتنافسون في مضمار السباق الحقيقي، تحلَّلوا من الصَغار، فدانت لهم مراتب المجد وأسفار الخلود.
أحاديثهم ونقاشاتهم، ضحكاتهم وهمساتهم، في لهوهم وهزلهم، عند فعلهم وجدهم، لحظة خوفهم وروعهم، أو ساعة أمنهم وصمتهم، حين جرحهم ونزفهم، وقت صحوهم أو يقظتهم.
بل إن شئت فقل: "في كُلِّهم".
لا يرون أنفسهم إلا "أحياء عند ربهم يرزقون"، لذلك فقد ضُبط إيقاع حياتهم على وتر الشهادة، وانتظمت حركات جوارحهم، وسكنات أنفاسهم، وسبحات خواطرهم، بل جُلّ دعواتهم لا تريد سوى هذه المنزلة، ولا تطمح لدونٍ دونها أو شيء قبلها، فرأيتهم بين الناس وما هم من البشر، ملكوا الدنيا وما نالت منهم شيئًا، طلبوا الآخرة بدمع الشوق في محراب الجهاد المقدس.
عرفوا الطريق ولزموا مستقيمه، هيَّئوا أجسادهم بعد أن بانت لهم أرواحهم على تبعات التكليف ووعثاء السفر، أجادوا التعرُّف على خبايا الليل، وسحر عتمته، فأخذهم في سكونه وأسدل عليهم حُجبَ الخفاء، أرادوها رباطًا.
استلهموا حلاوته من فصاحة ابن الوليد: "ما من عروس تُهدى إليَّ أنا لها محبٌّ، خير من ليلة كثيرة المطر شديدة البرد أُصبح فيها العدو في سرية من المسلمين".
أطلَّ عليهم القمر من عليائه، فاغتسلت بهالته قلوبهم فتطهرت وصفت حتى ارتفعت عن كل الخلائق وتحللت من جميع العوالق.
أن تكون عندهم فترة المطاردة شعورٌ لا أستطيع أن أصفه.
وإن استجمعت في داخلي كل مفردات البيان، عالمان يفصل بينهما خطوةٌ واحدة.
الفروق لا مجال لحصرها، وكذا كل شيء تذهب إليهم مثقل بكل أحمال الأرض، وكأنك تفرُّ من الدنيا إلى الآخرة فرارًا ما أثقلته الأعباء، وخشي الوقوع والانكسار لعمري.
إن بين عالمنا وعالمهم برزخ يُخلصك ويُنقيك من أحمالك لا تلبث فيه، إذ تعرج إلى السماء برحابتها وعلوِّ آفاقها وبديع جمالها، تتجسد أمامك وأنت في حضرتهم صور الصحابة والتابعين: من جسارة خالد، والمعاني التي جاشت بها نفس ابن المبارك، إلى زهد ابن دينار، وتعبُّد الفُضيل التقت القلوب، وتآلفت الأرواح، توحَّدوا في المسير والهدف، فكبُرت الهمم، وارتقت الآمال، واشتد عزم المضاء.
لن يطول بهم الشوق بعدها إذ جدّوا في طلب النعيم المقيم، فكانوا ولهم ما أرادوا، وكان لنا شرف الرفقة وحسرة الفراق.
وإذن، فقد بحثت في قاموس الروابط كلها وأوشاج البشر فلم أجد أصدق وُدًا ولا أعذب أُلفة ولا أوفى عهدًا من أُخوّة الجهاد ورفقة البندقية.
فعذرًا لأهل محبتي إن زاحمت هذه الثُلة على الروح والوجدان، فلا بُدّ لِذكرهم من بقاء، ولسيرتهم من تظهير ولا يزال لخطوهم من أثر، وفزعة المنادي ترن في الآذان.
ووالله إنّ وقفة صادقة مع النفس تُغربل زيف كل نداء دخيل وترجع الكثير عن متاهات الحيرة، ولا يزال في الوقت متسع، "فَهل مِنْ مُدَّكِر؟".
لروحَيْ الشهيدين: محمد السمان، ومحمد ياسين.