مع أنه لم يعد -منذ سنوات- دقيقًا الحديث عن بيت فتحاوي واحد، وخاصة بعد تشظي الحركة فعليًّا إلى تيارين متمايزين، الأول يمثله محمود عباس، والثاني محمد دحلان، إلا أن هذا البيت الواسع لم يشهد تمايزًا بين تياراته على صعيد جوهر المناهج والرؤى السياسية، فمسار التسوية ما زال يعدُّ عمودًا فقريًّا للخيمة الفتحاوية، بمختلف مكوِّناتها.
غير أن التطور السياسي الجديد في الضفة الغربية وغزة، والمتمثل بالاستعداد لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الثالثة، كشف بوضوح عما ظلَّ سابقًا مستترًا أو ضئيل الأثر من خلافات فتحاوية بينية، فلم يعد التمايز بين تيارين فقط، حيث يتبلور تيار ثالث يتزعمه الأسير والقيادي في الحركة مروان البرغوثي، وتنضوي معه فيه رموز (مثل حاتم عبد القادر وناصر القدوة) ضاقت بتياريْ: عباس-دحلان، وبسياسات الأول، وهيمنته المطلقة على أركان السلطة والحركة في الضفة الغربية، يُضاف إلى هذه التيارات شخصيات فتحاوية اعتادت في كل موسم انتخابي أن تدخل المنافسة تحت مظلة المستقلين بعد أن يتم استبعادها من قوائم فتح الرسمية.
بالنسبة لحركة فتح التي تمثل السلطة لها مكتسبًا ومشروعًا وحيدًا، يبدو طبيعيًّا أن ترتفع حمى التنافس والخلاف عشية أي موسم انتخابي، فمن لم يظفر بحصة في كعكة السلطة سيبقى في الظل مهما كان وزنه، ولن يكون له دور نضالي موازٍ من أي نوع في ظلِّ حالة التماهي بين فتح والسلطة، لكن الحركة اليوم تواجه تحديًا يتمثل في تعدد مراكز القوى داخلها، وفي التأهب لمرحلة ما بعد عباس، حيث يبدو أن هناك شخصيات فتحاوية عديدة تضع عينيها على خلافته، منها دحلان والرجوب والبرغوثي، وربما هنالك غيرهم، ولهذا تبدو الانتخابات فرصة لفرض وقائع جديدة متعلقة بمراكز القوى داخل فتح، حتى لو أدت إلى كسر اللحمة الداخلية للحركة، ولهذا تتطلع رموز التيارات المختلفة إلى حشد تأييد من خارج صفوف الحركة لتعزيز حظوظها، وخصوصًا في الانتخابات الرئاسية، وستجري استمالة الفصائل الأخرى بهدف كسب أصوات جمهورها، وخصوصًا حركة حماس، لا سيما في ظل الترجيحات بأنها لن تقدِّم مرشحًا للرئاسة.
لن يسمح تيار محمود عباس الممسك بمفاصل السلطة في الضفة بأن تنافس شخصيات فتحاوية أخرى على رئاسة السلطة، وفي حال خاض دحلان والبرغوثي انتخابات الرئاسة في مواجهة عباس، منفردين أو في حلف واحد، فالأرجح أن يتم تعطيلها، ولن تعدم السلطة وسيلة لذلك، لكنّ تبعات هذا التنافس والتشظي إلى تيارات لن تلبث أن تضرب جسم الحركة، وقد تتجلى اقتتالًا ميدانيًا عنيفًا في لحظة الصفر المتمثلة بغياب محمود عباس عن الساحة، أو بوصول أكثر من مرشح فتحاوي إلى لحظة الانتخابات الرئاسية.
لا يبدو ممكنًا الاستمرار في لمّ شتات الحركة تحت سقف واحد في ظل حمى المنافسات الانتخابية والتطلع لخلافة عباس، وقد كان كيان السلطة دائمًا هو ضامن تماسك الحركة، لارتباطه بالمصالح والامتيازات والمواقع والرواتب، لكن انفصال تيار دحلان عن كيان السلطة مكنه من البروز ككيان مستقل في تمويله وقراره وارتباطاته، ثم سيبرز هذا الاستقلال في قدرته على تشكيل قائمة انتخابية على مستوى الضفة وغزة تضم أنصاره، حتى لو لم يعلنوا ذلك صراحة خوفًا من بطش عباس.
أما التيار الذي يتزعمه مروان البرغوثي فهو مستند إلى إرثه النضالي وحضوره الجماهيري الواسع في صفوف قاعدة حركة فتح، ولذلك فإن مجابهته المباشرة صعبة، وستخصم من رصيد تيار عباس لدى قاعدة حركة فتح قبل سواها، فكانت محاولات احتوائه التي تمثلت بزيارة الوزير حسين الشيخ له في سجنه، مقدمًا له بعض المغريات لثنيه عن الترشح للرئاسة، ولكن يبدو أن مروان البرغوثي الذي عاين محاولات تحجيمه المستمرة سابقًا لم يستجب للعرض الذي حمله حسين الشيخ، وما يزال حتى اللحظة عازمًا على الترشح لانتخابات رئاسة السلطة.
لا مشكلة لدى فتح عباس بأن يتزعم البرغوثي قائمة الحركة الرسمية في انتخابات المجلس التشريعي، ما دام سيبقى في سجنه، حتى لو كان رئيس كتلتها النيابية، لكن عباس ومعه الرموز المتطلعة لخلافته لا يرغبون برؤية البرغوثي رئيسًا للسلطة أو خليفة لعباس في زعامة الحركة، لأن هذا سيعطل مشروعهم السياسي إلى حدٍّ ما، وسيقوِّض الجهود المضنية التي بذلوها على مدار السنوات الأخيرة لبناء مراكز قوى لهم داخل الحركة ومؤسسات السلطة، ولذلك سيلجأ كثيرون لمغازلة الفصائل الفلسطينية الأخرى، وبناء تحالفات معها، وخصوصًا حماس.
سيتعين على حماس أن تقرأ المشهد بتمعن وتأنّ كبيرين، وهي بلا شك مطلعة على كثير من تفاصيله، وأن تعدّ نفسها لسيناريوهات عديدة، قد يكون بعضها داميًا، لكن من المهم كذلك أن تتخفف من حسن النوايا في تعاملها مع من أظهروا لها ودًا فجائيًا بعد مسيرة حافلة لهم في قمع الحركة وتشويهها وإقصائها. وإن كان لا بدّ لها من تحالف، فليكن مع الأقرب لها وطنيًا ومع الأكثر انسجامًا مع مشروعها الأساسي، وليس مع من قد يمنيها بالسراب لأجل استخدامها مؤقتًا لبناء أمجاده وقهر خصومه داخل حركته.