قائمة الموقع

في ذكرى النكبة .. كُلّاب يحِنُّ لـ"حمامة" وللفتى الصياد أيضًا

2017-05-16T05:43:13+03:00
الزميل يحيى اليعقوبي (يميناً) أثناء لقائه بالحاج أيوب كلاب (يساراً) - تصوير / ياسر فتحي

في ساحة مَنزِلهِ البَسِيطَ الواقع على شَاطِئ بَحرِ غَزَة؛ أبحر الحَاج أيوب كُلَّاب 85 عامًا في أعْمَاقِ الذَاكِرة، أي إلى حَيَاةِ الآبَاء والأجَدَاد قَبْلَ 69 عاماً من خروجه من بَلدَتِه "حمامة" التي هَجَّرَتهُم مِنْهَا العِصَابَات الصُهيُونِية.

حكاياتٌ جميلة وأخرى حزينة تنطق بها تعرجات وجهه الذي غيَّرته السنون؛ بَعْدَ أنْ شَهدَ الكارثة وعَاشَ أدَق تَفَاصيل قِصَةَ عائلته وبَلدته، بلغ من العمر عتياً إلا أن الحنِين لا زال يشده كثيراً إلى ذلك "الفتى الصيَاد" في تلك الأيام.

بصوته الخافت باح بذكرياته في عام 1948م، حين كان الفدائيون الفلسطينيون يقاومون العصابات الصهيونية ومن قبلها الانتداب البريطاني.

دبابة لنا وأخرى للمجدل

عيناه اللتان تتلألآن بالأخضر فيهما شيء من حزن تلك المرحلة الذي لم يتجاوزه برغم مرور السنين؛ يتحدث العم أيوب لمراسل فلسطين: "دافعت المجموعات الفلسطينية المُقاومة عن أرضها ببسالة متصديةً للعصابات الصهيونية، وبعد ذلك ساندهم الجيش المصري الذي تمركز قرب بلدة المجدل معززاً بالدبابات والمدافع".

وحسب كلامه فإن المجموعات المقاومة نصبت كميناً للعصابات الصهيونية التي أرادت التقدم نحو بلدته حمامة؛ إذ أسفر الكمين عن الاستيلاء على دبابتين؛ "فكانت واحدةٌ من نصيب أهل حمامة؛ والثانية لأهل المجدل".

وكأنه لا زال يعيش تلك اللحظة حين أشار بيده المُجعّدة نحو الشمال أي باتجاه بلدته المحتلة؛ ليقول: "تلقى الجيش المصري والفدائيون الفلسطينيون أمراً باقتحام منطقة تتمركز فيها العصابات الصهيونية، تسمى دير سنيد القريبة من المجدل، ولم ينسحب الفلسطينيون بل أصروا على المقاومة ونجحوا في طرد اليهود".

بأقصى أحاسيسه يواصل رواية أيام عصيبة عايشها: "بعد ذلك استقر الجيش المصري قرب منطقة أسدود لمدة ستة أشهر وخلالها جرد المصريون سلاح الجماعات الفلسطينية المسلحة".

تزامن ذلك مع مقترحات الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام 1948م من خلال الوسيط الدولي للأمم السويدي الكونت برنادوت، على يد عصابات "الهاغاناه" و"أرغون" الصهيونيتين نتيجة اقتراحه وضع حد للهجرة اليهودية ووضع القدس بأكملها تحت السيادة الفلسطينية.

وأضاف: "انسحب الجيش المصري حينها؛ لتنجح المؤامرة التي حيكت من أطراف عربية لأجل التمهيد لاحتلال فلسطين".

القِسم المؤلم من الحكاية

ترى ما هو اليوم الذي لا ينساه الحاج أيوب؛ لا يحتاج إلى التفكير في سؤالٍ كهذا على وجه الخصوص: "على أعتاب أيلول من عام 1948م، أتى يومٌ لم يُحفر في ذاكرتي فحسب؛ بل في وجدان الفلسطينيين أيضاً؛ حين أطلقت الطائرات نيرانها العشوائية لتنشب الحرائق في كل مكان، لم يرحموا طفلاً ولا امرأة، يا لها من لحظات قاسية".

ويتابع الحديث الممزوج بمرارة وقهر: "ما أن غادرت الطائرات الصهيونية المُغيرة حتى تقدمت العصابات البرية المعززة بالدبابات والآليات وذلك من الجهة الشرقية من بلدة حمامة، وهي منطقة مرتفعة وأخذت تطلق نيران رشاشاتها بشكل عشوائي تجاه كل شيء بالبلدة ولمدة ساعة كاملة".

تسابق السكان لأجل الهرب من الموت، منهم من أخذ حماره أو حصانه أو جمله، وحزم ما استطاع على عجل من أمتعه وغادر البلدة، ومنهم من نجى بنفسه دون أن يتمكن من أخذ شيء؛ هكذا كان حال الناس عند الهجرة؛ وفقاً لوصفه.

في البداية، استقر أهل المجدل نحو الغرب من بلدة الجورة، أما أهل حمامة وصلوا نحو منطقة "الشيخ عوض"، ظناً منهم أن الأمور ستقف عند هذا الحد، لكن القادم كان أسوأ؛ حين واصلت الطائرات قصفها للبلدات واستمر التهجير بشكلٍ أوسع؛ حسب قوله.

صمتٌ فيه قدر عالٍ من الألم؛ ما لبث أن قطعه ضيفنا: "ثم انسحب الجيش المصري من ناحية الساحل على ظهور دباباتهم؛ ثم حُشر عدد كبير من المهاجرين لا سيما من يافا إلى خلف سياج نصبته وهو ما يعرف اليوم بحاجز معبر بيت حانون، ووقعت حينها اتفاقية الهدنة واعلان احتلال فلسطين.

يكتم دمعته وهو يصف المشهد: "كانت غزة كـ"الأحراش" مليئةٍ بالأشجار؛ لم يجد اللاجئون بُداً من الاستقرار فيها؛ فبادروا إلى تقطيع الكثير من الأشجار لاستخدامها في التحطيب والانتفاع منه".

إحياء تجربة

كلاب الذي احترف مهنة الصيد في بلدته الأصلية، استمر في مهنته بعد الهجرة وتزوج عام 1956م، بعد أن بلغ 22 عامًا.

وعن أدوات الصيد قبل الهجرة؛ تبَّسم مستذكراً: "صنعتُ أنا وأصدقائي قارب صيد يسمى (مبطنة) حجمه أقل من لنش وهو قارب شراعي يسير مع اتجاه الريح، وحين لا تتوفر الرياح نستخدم المجداف".

كان الحاج أيوب أول من فكر بنقل ما يعرف بـــ"الجرافات" البحرية" من "البلاد" إلى غزة، يتطرق لهذه المسألة بقوله: "لما هاجرنا نسي الناس هذا الأمر، فقمت بشراء غزل وحياكته؛ ولمن لا يعرف فإن (الجرافات البحرية) هي غزلٌ وشباك تُرمى على بعد 500 متر داخل البحر؛ ويمتد منها حبلان من الجهة اليمنى واليسرى تمكسه مجموعتان من الرجال، وتستمر المجموعتان بشد الحبل كل من طرفه حتى يحشر السمك في النهاية بمساحة ضيقة جداً على الشاطئ بكميات كبيرة".

وبعد نقله لهذه الفكرة إلى غزة، انتشرت بشكلٍ كبير على مستوى القطاع واستمرت كوسيلة أساسية بالصيد لنحو عشرة أعوام لما توفره من دخل وفير.

وبدا عليه الفخر فيما فعله حين قال: "سعيدٌ أني بفضل الله نجحت في إحياء أمرٍ نسيه الناس "أيام البلاد".

ويرى من هو "اسمٌ على مسمى"؛ فقد تجرع صبر أيوب حقاً؛ أن للاحتلال الإسرائيلي اليد الطولى في قتل الأسماك في البحر، بعد حجب مياه الأودية عنها والتي كانت تُصب في البحر سبع مرات سنوياً، خاتماً حديثه لنا: "كانت الأسماك تتغذى من مياه الأمطار التي تتسرّب للبحر من خلال الأودية، وكذلك من مياه نهر النيل الذي حجبه أيضا السد العالي؛ لقد مات بحرنا مع الأسف".

اخبار ذات صلة