نقلت وكالة أسوشييتد برس، يوم الجمعة الماضي، عن المتحدّث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، سامي مشعشع، قوله إن مليون دولار فقط قدّمتها الإمارات للوكالة الأممية، في العام 2020، بعد أن قدّمت في العام الذي سبقه 51 مليون دولار، وفي سابقه 53 مليون دولار... الخبر باهظٌ في معانيه، ومُفزع. وعجيبٌ أيضا لأن انكشافه جاء بعد أيام على إشهار وزيرة الدولة للتعاون الدولي في الإمارات، ريم الهاشمي، أن بلادها مستمرّة في التزامها بدعم "أونروا"، "لإيمانها بالدور الذي تقوم به الوكالة في تحسين مستوى معيشة اللاجئين، انطلاقا من التزام الإمارات الدائم والتاريخي والراسخ تجاه الشعب الفلسطيني". وقد أخبرت الوزيرة المفوّض العام للوكالة، فيليب لازارايني، بهذا الكلام الذي تستوقفك بشأنه حقيقتان: أولاهما أن أبوظبي لم تكن تقصّر في إسناد اللاجئين الفلسطينيين، بمساعداتٍ وتبرّعاتٍ وإعانات.
وقد قالت الوزيرة إن بلادها قدّمت لوكالة أونروا، من 2013 إلى 2020، أزيد من 840 مليون دولار. ... ولا ينسى إلا غافلٌ مسارعة الإمارات إلى إعادة بناء مخيم جنين، بالشراكة مع وكالة الغوث، بتغطيةٍ وصلت إلى 35 مليون دولار، بعد التدمير المهول الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على المخيم في عام 2002. الحقيقة الأخرى أن الإمارات تغادر صفتها بلدًا عربيًّا مُعِينًا للشعب الفلسطيني عندما تُوازي اتفاقيات تحالفها مع (إسرائيل) بإنقاص إسنادها وكالة الغوث إلى مليون دولار(!).
الشنيع في نبأ "أسوشييتد برس" أن "أونروا" لا تتبع فصيلًا فلسطينيًّا يقيم في دمشق، ولا صلة لها بالسلطة الوطنية في رام الله، وإنما هيئة إغاثةٍ للاجئين فلسطينيين (5,7 ملايين) محتاجين خدمات وإعانات ومساعدات، تتبع الأمم المتحدة. فإذا ظنّ ولاة الأمر في أبوظبي أنهم يعاقبون هؤلاء الناس بسبب مواقف سياسية فلسطينية معلنة، فذلك يعني أن فيهم ما هو خارج المنطق. ويُضاعف من شناعة النبأ أن قصة المليون دولار تلك تعني اتّساقا غير معلن مع تعليق دونالد ترامب مساهمات الولايات المتحدة في ميزانية الوكالة (360 مليون دولار).
وإذا صار ما أعلنه ممثل الولايات المتحدة المؤقت في الأمم المتحدة، ريتشارد ميلز، إن الرئيس جو بايدن ينوي إعادة برامج المساعدات الأميركية للشعب الفلسطيني (منها على الأرجح لوكالة أونروا)، فإنه سيكون باعثا للاستهجان لو تنكّبت أبوظبي الأمر نفسه، فرجعت إلى تبرّعاتها المعهودة للوكالة، فالباقي في أفهامنا أن الدول العربية مطالبةٌ، بداهة، بالتزامٍ تجاه شعوب الأمة الواحدة، لا يتصل بمزاج رئيسٍ يقيم في البيت الأبيض أو يغادره.
نظنّه موضوعا موصولا بما سبق أعلاه ذلك النفي الذي أشهرته وزارة الخارجية الفلسطينية لما ذاع عن شكوى رسميةٍ تقدّمت بها إلى الأمم المتحدة ضد الإمارات لاستيرادها منتجات مستوطناتٍ إسرائيلية. وكان خبر الشكوى قد بعث في النفوس، أول ما طيّرته وكالة أنباء فلسطينية، شعورا بالغبطة، إذ ينطق بأن لدى أهل القرار في رام الله ما في وسعهم أن يبادروا إليه، بدل المكوث في دائرة الثرثرات اللفظية، والمواقف الكلامية، والقرارات العنترية المتراجَع عنها بعد حين. إلا أن هذا الشعور ما لبث أن غاب، بعد الإيضاح الذي اشتمل عليه النفي، وفيه أن الوزارة إنما طالبت بالمتابعة مع الشركات والأفراد الذين يستوردون منتجات مستوطناتٍ إسرائيلية، باعتبار أن مهمة وولاية المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ميشيل باشليت، هي "بشأن قاعدة بيانات محدّدة تجاه الشركات والأفراد والكيانات والأعمال التجارية فقط". وأفادت الوزارة بأنها في رسالتها إلى الأمم المتحدة (وأخرى إلى جامعة الدول العربية أيضا!) أشارت إلى أن عقد اتفاقات تجارية مع المستوطنات يعدّ مخالفة للقانون الدولي، ولديه "الأثر السلبي والعدائي" على حقوق الشعب الفلسطيني. ..
والظاهر في هذا أن لعثمةً وتأتأةً ثقيلتين في أداء السلطة الفلسطينية بشأن مسألةٍ بالغة الخطورة، أي شراء دولة عربية منتجاتٍ (بينها النبيذ بالمناسبة) من مستوطناتٍ مقامةٍ على أراضٍ فلسطينيةٍ محتلة، الأمر الذي لا يتسامح معه الاتحاد الأوروبي وهيئات ومنظمات وتشكيلات دولية، رسمية وأهلية، عديدة في العالم .. ولكن من قال إن الإمارات تكترث بكلام الجرائد وغيرها عن مليون دولار ترميه إلى "أونروا"، وعن شرائها ما تشتريه من المستوطنين وحاخاماتهم، ولا عن كثير غير هذا وذاك.