عبر تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ومنذ النكبة الفلسطينية، لم تكن هوية الإدارة الأمريكية جمهورية كانت أم ديمقراطية السياسة، مختلفة بسياستها وتحالفها الوثيق مع المؤسسة الصهيونية، ولم تكن الأخيرة بحزبيها الحاكمين "ليكود أو عمل" وما تفرع منهما من أحزاب وتحالفاتهم تختلف حول جوهر الصراع مع الفلسطينيين، السياسة المتبعة لجهة السطو على الحقوق الفلسطينية وتشتيت المفاوض الفلسطيني و"جرجرته عشرات السنوات" كما أوضح اسحاق شامير بعد مؤتمر مدريد "للسلام" 1991، بقيت عقيدة تفاوضية توالت فيما بعد ثوابت الانزلاق خلف الجرجرة الإسرائيلية التي برع فيها شارون وبيريز ونتنياهو.
أمنيات اجتراع المعجزة
تمنى بعض العرب في السنوات الماضية، أن يعتلي ترامب المنصرف، مكانته الأبدية في عقولهم، وتمنى الفلسطينيون أن تنتهي الترامبية للأبد، لما سببته من صدمات كارثية عليهم بسخاء عربي غير محدود، تستعد الإدارة الأمريكية الجديدة "الديمقراطية" التوجه بقيادة جو بايدن، نشر أجواء الارتياح المحبب لبعض العرب والفلسطينيين، إعادة فتح مكتب الاتصال لمنظمة التحرير في واشنطن، وإعادة فتح قنصلية أمريكية في القدس الشرقية، وعودة المساعدات المادية للسلطة، ودعم حل الدولتين، ليست اجتراع لمعجزات ينتظرها الطرف الفلسطيني بفرك يديه فرحاً بإعادة إنشاد وسماع الأسطوانة نفسها.
الخبرة العملية وواقع الحال الذي عصف بالقضية وبالأرض والحقوق، لا تنسجم معه عبارات الإطناب بإدارة أمريكية جديدة ولا بحكومة إسرائيلية جديدة ولا "برفع الآمال بتلويح بايدن بطاقة حمراء" بوجه السياسة الاستعمارية لـ"إسرائيل".
التجريب والتخريب
جرب الفلسطينيون ومن خلفهم العرب، الرهان على إدارات أمريكية متعاقبة وحكومات إسرائيلية، نسفت كل الأوهام بإقامة دولة للمستوطنين داخل "الدولة الفلسطينية" التي يُنتظر تحقيقها بسياسة أمريكية مغايرة وإسرائيلية يُذعن لها، السنوات المقبلة للديمقراطيين في البيت الأبيض لن تعمل على تضميد الجراح الفلسطينية، ولا لإعلاء شأن الحقوق التاريخية للفلسطينيين، من الممكن أن تعمل على إعادة دور لسياسة أمريكية برعاية التيه الفلسطيني من جديد في دهاليز المفاوضات لسنوات قادمة وهكذا.
في تجربة بوش الأب وإدارة كلينتون وبوش الابن وأوباما، عبرُ كثيرة ومحطات فاصلة بما يخص مآلات الوضع الفلسطيني والعربي، الانغماس والحماس الذي يبديه البعض لإدارة بايدن "المُخلِص" باتوا في حاجة لمن يخلصهم من ورطات الارتجالية الفاشلة لسياسة عربية وفلسطينية تتكرر منذ سنوات ما بعد أوسلو دعوات مراجعتها، وإذا كان عقد الآمال ينصب على تغيير السياسة الأمريكية في المنطقة العربية خلافاً للفجور الذي أبدته إدارة ترامب في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، فهو لن يمس العلاقة الوثيقة بالتطبيع العربي الصهيوني الذي يفخر الجمهوريون والديمقراطيون بإنجازه لحليفهم، غير أن الخندق المشكل بين أنظمة عربية والمؤسسة الصهيونية لن يردم بمعولٍ أمريكي خدمة لقنوات اتصال مع المفاوضين.
أهمية الشارع العربي
قنوات الاتصال الأمريكي- الفلسطيني العربي، كانت وستبقى لتمرير الضغوط الممارسة على الطرف الفلسطيني للقبول بإملاءات المحتل، أضيف إليها عامل عربي لمؤازرة هذه الضغوط بشكل علني ومباشر، وأصبح وكيلاً للمستعمرات الصهيونية وترويج بضائعها، وتبنى طروحات صهيونية وتلمودية مناهضة أساساً للوجود العربي والفلسطيني فوق أرضه التاريخية، التوهم بموقف مغاير عما ألفته عقول ملايين العرب، يعني الجهل الكامل بسياسة أمريكا المتعلقة بترويض الفلسطينيين والنظام العربي بتسويق شعارات فارغة عن السلام وحل الدولتين، التي اعتمد عليها الإسرائيلي بإحداث ثقوب لا متناهية من الاستيطان في جغرافيا أصحاب الأرض وتقطيع أوصالها.
ثمَّ ما الذي يجبر أمريكا على تغيير سياستها مع حليفها الوثيق في تل أبيب؟
وقد أنجزت في عهد ترامب، صهينة وتطبيعا، يبقيان مفخرة لأي إدارة امريكية وإسرائيلية، فدون الاعتماد على شارع عربي وفلسطيني لن يتغير واقع الحال، ودون حصول الفلسطينيين على حليف مماثل لأمريكا بظهرهم، بعيداً عن الشعارات، يدعم تطلعاتهم ويقف بوجه السياسة الصهيونية والأمريكية، سيبقى الرهان على منظومة عربية بجامعتها ومبادراتها ونظمها مضيعة للوقت والأرض، ولا جدوى منه بما يخص دعم صمود الفلسطينيين، كل هذه الأحلاف لم تستطع حماية شجرة زيتون من فأس المستعمرين، وكل هذا التمنين الفارغ بدعم الفلسطينيين لا يرقى لحماية بيت عربي مهدد بمشاريع الهدم الاستيطانية وطرد السكان، ولا يرتقي بمثل ما تحظى به لوبيات "إسرائيل" والمؤسسة الصهيونية التي أصبحت لها فروع عربية بنغورية وهرتزلية، يحتفى بها في بعض عواصم العرب المتحدة لأول مرة على مجابهة الحقوق الفلسطينية مع "إسرائيل".
جو بايدن الديمقراطي، لن يكون فلسطينياً بأمنيات تغيير العقيدة والولاء للمؤسسة الصهيونية، كما كل الادارات السابقة، التجريب مجددا بالعقلية نفسها لا يُسقط خطط الضم، ولا يفشل صفقة القرن ولا يعطل الهرولة نحو التطبيع، ولا يحقق وحدة داخلية فلسطينية، ولا يعزز جبهة عربية شعبية، دون هذه العناوين سنمضي سنوات أخرى بزمن "الجرجرة" الذي رسخه شامير، وتكمله عقلية مستريحة لكل شيء وعلى رأسها استكانة الفعل الفلسطيني المنتظر استئناف مشقته مع أي إدارة دون إدارة الإنسان الفلسطيني.