قائمة الموقع

"كورونا" أحرقت لقمة عيش "نصار".. وجسده أيضًا

2020-12-25T12:28:00+02:00
الشاب أيمن نصار

كأمواج البحر تتلاطم الأفكار في ذهن الشاب أيمن نصار ذي الأربعة والعشرين خريفًا، الذي أرهقته هموم الحياة، والتفكير في مستقبل مجهول المعالم، بعدما تراكمت عليه الأزمات واحدة تلو الأخرى منذ صغره.

لا يعرف "نصار"، القاطن في مخيم دير البلح وسط قطاع غزة، من أين يبدأ سرد همومه وآلامه التي أصبحت "كومة رمال" صلبة تأبى التزحزح لتفتح طريقًا للأمل، مع تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية بفعل الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ أكثر من (13) سنة على القطاع، واشتدَّت وطأته مع تفشي جائحة كورونا في 24 أغسطس/ آب 2020.

قصة "أيمن" واحدة من عشرات قصص القهر والألم في قطاع غزة، الذي أنهكه الحصار الإسرائيلي، ولا يزال يعاني آثارَه. وما "زاد الطين بلَّة" جائحة كورونا التي رفعت معدلات البطالة والفقر لنحو 70%، في حين يعتمد 80% من السكان على المساعدات الخارجية لتأمين ظروف حياتهم، وفق معطيات رسمية من وزارة التنمية الاجتماعية.

عاطل عن الحياة

"أنا عاطل عن العمل، وعن الحياة كلها (...) وجودي وعدمه واحد في هذه الدنيا"، كلمات مؤثرة كانت أول ما نطق به "نصار"، الذي تزوَّج منذ سبع سنوات، وأنجب ثلاثة أطفال، أمضاها باحثًا عن "لقمة خبز" لإعالتهم، رغم ضيق الحياة وضنك العيش.

ومع صغر سِنِّ "نصار" فإنه لا يقوى على العمل في أي مجال؛ لوجود قَطْع في شريان يده اليسرى، وقد أُجرِيت له عملية جراحية لوصله، يقول: "لا أستطيع رفع أكثر من 5 كيلوجرامات بيدي اليسرى، حتى لا ينقطع الشريان مجددًا، وأحتاج إلى عملية أخرى في القدس المحتلة".

ازدادت الأوضاع سوءًا بعدما اضطر "نصار" لترك "غرفة" كانت تُؤويه وعائلته في بيت والده، بسبب خلافات عائلية -لم يرغب بالإفصاح عن تفاصيلها- ما دفعه وعائلته للمبيت على شاطئ البحر لمدة تزيد على (20) يومًا.

مرَّت تلك الأيام قاسيةً على "نصار"، الذي افترش قطع كرتونية لينام عليها أطفاله وزوجته، إلى أنِ استأجرتْ له لجنةُ زكاة دير البلح على نفقتها بيتًا صغيرًا يُؤوي عائلته، وما زال يمكث فيه منذ قرابة سنة ونصف السنة.

داخل ذلك البيت المتهالك الذي لا تزيد مساحته على 60 مترًا، ويتكون من غرفتين ومطبخ ودورة مياه صغيرة، وتعتليه ألواح من الصفيح لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، تنعدم أدنى مقومات الحياة، حيث يخلو من جميع الأجهزة الكهربائية الأساسية التي توجد في كل منزل، وأي نوع من الأثاث.

حتى الإنارة مفقودة تمامًا، وفق نصار، فما يزال يُضيء بيته بـ"الشمع" الذي يُشكِّل خطراً على الأطفال، وبالكاد يستطيع شراءه في بعض الأحيان؛ لعدم وجود سيولة نقدية لديه، "أنا أعيش وضعًا يختلف عن أي إنسان، لا توجد إنارة، وفي بعض الأحيان ما بقدر أجيب الشمع اللي حقه شيقل واحد".

فعندما يسدل الليل ستاره يجلس "أيمن" إلى جانب رفيقة دربه المتعثِّر، يتبادلان نظرات الحزن والألم على ما آلت إليه أوضاعهما، ثم يندب حظَّه واضعًا يده اليمنى فوق اليُسرى، وعيناه ترقبان أطفاله الثلاثة وهم يتوجهون إلى "فرشة النوم" الوحيدة المخصصة لهم، ثم يغفو بعد ذلك على "وسادة القلق" ينتظر صباحاً علَّه يكون أفضل من سابقه.

من إحدى نوافذ البيت الخَرِب تتسلل خيوط أشعة الشمس الذهبية، لتُنَبِّه "أيمن" للاستيقاظ من نومه، فيصحو مصطحبًا معه التفكير في كيفية توفير "لقمة خبز" لأطفاله الثلاثة الذين ناموا على لحم بطونهم دون عشاء أو حتى غداء، فتمضي الساعات وهو يحاول وزوجته توفيرها "لكن دون جدوى".

بِدِّي تفاح!

"بابا بدي تفاح من هذا"، ببراءة خرجت هذه الكلمات من كرم، الابن الثاني، مُوَجِّهًا إياها لوالده "أيمن" حينما مرَّت إحدى عربات بيع الفواكه من أمام بيته، وعيون الطفل لم تفارق العربة حتى غادرت المنطقة دون تحقيق أمنيته البسيطة.

صمت والد الطفل هُنيهةً وهو مكتوف اليدين، وشرد بذهنه إلى وضعه الاقتصادي القاسي الذي جعله قليل الحيلة فارغ الجيب واليد، ولـمَّا عجز عن تلبية طلب طفله ولم يجد ردًّا انهال عليه بالضرب ليشغله بالبكاء، كي ينسى حلمه البسيط "التفاحة".

وقف أيمن عاجزًا عن تلبية طلب "كرم" البسيط الذي يتمناه كما أي طفل من عائلة ميسورة الحال، فراح يضرب كفًّا بكفٍّ تارةً، وتارةً أخرى يُغطي بهما وجهه أمام طفله الذي ارتسمت عليه علامات اليأس ونخر الأسى قلبَه: "في حاجات كثيرة بداخلي، لكن ما بقدر أفصح عنها".

شرد بتفكيره وهو يحرك عينيه يمينًا ويسارًا، حتى تذكَّر أن عائلته وأطفاله لم يتناولوا أي وجبة طعام على مدار الأيام الثلاثة الماضية.

زاد الألم والقهر في قلب أيمن، حتى انسابت الدموع متسارعة على وجنتَيْه، بعدما أجهش بالبكاء حسرة على ما وصلت إليه حالُه، وعيناه تُحدقان في معالم وزوايا البيت المتهالك، الذي يفتقد لأدنى مقومات الحياة الكريمة.

حتى الطفلة إلهام، ذات الربيع والشهرين، باتت تتجرع مرارة سوء الحال، فوالدها "أيمن" لا يقدر على شراء الحفاضات الطبية لها، فتضع لها زوجته قِطَعَ قماش بالية بدلًا منها، يتحدث وبالكاد يخرج الصوت من حلقه.

محاولة انتحار مرتَيْن!

لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، بل من هنا بدأت القصة، فبعدما أُغلقت الأبواب في وجهه بعد تفشي جائحة كورونا داخل قطاع غزة، كما يقول، راح يبحث عن طريق آخر ظنًّا منه أنه سيجلب لعائلته قوت يومها، وهو "الذهاب نحو الجحيم" بالإقدام على إحراق نفسه، في محاولة للتخلص من حياته.

في إحدى الليالي اقتنص "أيمن" فرصة سكون الليل ونوم أطفاله، فأحضر لترًا من الوقود وسكبه على نفسه، ثم أشعل النار في جسده، فاشتعلت بعض أجزائه، فيما حاولت زوجته اخمادها قبل أن تجتاحه كله.

لم يكتفِ بذلك، فعاود الكَرَّة وأضرم النار في نفسه بعد مرور بضعة أيام على فعلته الأولى، فرأته زوجته مرة أخرى، وهُرعت تتصل بأصدقائه، حتى هبُّوا مسرعين واستطاعوا إطفاء الحريق، لكن بقاياه ظلَّت عالقة على جسده.

سارع الأصدقاء إلى نقل أيمن للمستشفى، وهناك تلقى العلاج اللازم، في حين تابعت إحدى عيادات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا" حالته الصحية، وحوَّلته لمستشفى الصحة النفسية لمتابعة حالته.

ولا يزال "أيمن" يتلقى علاجًا للحروق التي سببها لنفسه من جهة، وعلاجًا للمرض النفسي الذي حلَّ به، يردد: "لماذا أبقى على قيد الحياة ما دمت لا أستطيع إدارة أمور حياتي وجلب قوت يوم عائلتي كي تعيش حياة كريمة؟".

ويقول إنه توجه لكل الجهات الحكومية والخاصة المعنية بالفقراء في قطاع غزة لمساعدته، لكن دون جدوى، ما فاقم حياته سوءًا، خاصة مع تفشي جائحة كورونا.

ولم يعد "أيمن" قادرًا على الحديث، فقد ذرفت دموعه مرَّة أخرى من قسوة الظروف الاقتصادية التي يمر بها، ليختم حديثه بقوله: "حلمي أن يتوافر طعام في البيت لأطفالي، ولو الشيء القليل، أو توفير مبلغ مالي بسيط يُدخل الفرحة إلى بيتي، إضافة إلى توفير بعض الأجهزة الكهربائية البسيطة".

اخبار ذات صلة