لم تتوقف يومًا الاعتداءات التي ينفذها المستوطنون الصهاينة ضد أهل فلسطين، لكنها شهدت تصاعدًا في السنوات الأخيرة، ولاسيما ضد فلسطينيي الضفة الغربية، حيث يتمدد الاستيطان فيها بلا توقف، وحيث يمكن أن نصل تلقائيًا إلى حالة انفصال المناطق السكانية الفلسطينية فيها عن بعضها، فالتجمعات الاستيطانية الصهيونية الكبرى في الضفة باتت مدنًا كبيرة، والشوارع الالتفافية المخصصة لسير مركبات المستوطنين يضطر الفلسطينيون لسلوكها خلال التنقل من منطقة إلى أخرى داخل الضفة، لانعدام البديل عنها في الغالب، ويكفي أن يسافر المرء عبر هذه الشوارع ليدرك أن الضفة الغربية لم تعد قابلة لأن تكون دولة فلسطينية ولا حتى دويلة، وفي قلبها وبين مدنها كل أنماط التهويد المرئية تلك.
قبل الاحتلال الصهيوني لفلسطين، جرى التمهيد لتمكين المشروع الصهيوني من خلال نشاط عصابات الهاجاناة والأرجون وغيرهما، عبر المجازر العديدة والمروّعة التي نفذتها ضد الفلسطينيين، لإشاعة الرعب بينهم وحملهم على ترك منازلهم وأراضيهم والرحيل عنها، أي أن تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على مزيد من أراضيهم كان وما زال جزءًا أصيلًا من مكونات العقيدة الصهيونية، وخططها الاستراتيجية، غير أن الأساليب المفضية إلى هذا الهدف تتغير وتتنوع بتغير الزمن، لكن جوهرها يبقى واحدا.
نشاط المستوطنين الإجرامي في الضفة الغربية بات يتمظهر في أشكال منظمة خلال السنوات الأخيرة، تحت مسميات عديدة مثل "مجموعات تدفيع الثمن" و"فتيان التلال"، وتعمد المجموعتان وغيرهما إلى حرق منازل الفلسطينيين وممتلكاتهم ومساجدهم، وسبق أن نفذت مجزرة عائلة دوابشة وقتل الفلسطينية عائشة الرابي وقبل ذلك حرق الطفل محمد أبو خضير حيًّا، وغير ذلك من جرائم، وقد نفذت مجموعة "فتيان التلال" عدة اعتداءات خلال الأيام الفائتة، منها محاولة اختطاف طفلة فلسطينية من قرية مادما شمال الضفة الغربية بعد إصابتها بجروح مختلفة. ومشروع المجموعة قائم على السعي للسيطرة على قمم التلال في مختلف مناطق الضفة الغربية، وإنشاء بؤر استيطانية عليها، تتحول مع الوقت إلى أبنية استيطانية (شرعية) وفق القانون الإسرائيلي.
لا يبدو نشاط "فتيان التلال" مختلفًا عن فعل عصابات الهاجاناة في جوهره وهدفه، لكن سِنَّ أكثر عناصر فتيان التلال لا تتجاوز ستة عشر عامًا، ليس للإفلات من الملاحقة القانونية الإسرائيلية فقط، بل لأن الذهنية الصهيونية تربي عناصر الكيان منذ صغرهم على أجندتها المتطرفة، وتزرع في وعيهم نزعة الإجرام واستسهال الفتك بالفلسطيني، وما نشاط المجموعات الاستيطانية في الضفة الغربية إلا جزء من التدريبات العملية على عقيدة الإجرام والسيطرة وترهيب الفلسطينيين، وبدونها سيفقد المشروع الصهيوني خصائصه، وسيتآكل عامل الردع لديه، والكيانات الدخيلة الإحلالية يظل عناصرها متأهبين تعبويًا وتسليحيا، ومسكونين بهاجس السيطرة والإخضاع والتفوق العسكري، وهو عين ما يفعله كيان الاحتلال الصهيوني بمؤسساته النظامية العسكرية، وبنشاط مجموعاته الاستيطانية.
لأهدافٍ سياسية وإعلامية تتظاهر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بأنها تلاحق نشاط هذه المجموعات في الضفة، لكنها في حقيقة الأمر تدعم بقاءها وتغضّ الطرف عن نشاطها، لأن اعتداءاتها على الفلسطينيين تتسق مع سياسات حكومة الاحتلال في الاستيلاء على أراضي الضفة الغربية ومصادرتها وضمها، وصولًا إلى هدف أكبر يتمثل بجعل الضفة بيئة طاردة للاستقرار وللوجود الفلسطيني، ومفككة الأوصال وخاضعة للسيادة الصهيونية، وإكراهات قوّتها.
لذلك كله، يمكن ببساطة أن تتحول جرائم المجموعات الاستيطانية إلى مسلك يومي كثيف يشلّ الحياة في معظم المناطق الفلسطينية في حال بقيت دون رادع، وإذا رأت الحكومة الصهيونية أن هناك حاجة لإطلاق يدها أكثر في الضفة الغربية.
ولذلك أيضا، وهنا في الضفة، حيث تسيطر حركة فتح عبر السلطة الفلسطينية، لم يعد يكفي أن يعلق قادتها على اعتداءات هذه المجموعات بالإدانة والدعوة إلى تشكيل لجان حماية محلية في البلدات والقرى الفلسطينية المهددة، فهذا منطق العاجز الأعزل، والسلطة كما نعلم متضخمة بأجهزة أمنية عديدة فيها عشرات آلاف العناصر المسلحة، فضلًا عن أن الضفة الغربية باتت مرتعًا للسلاح العائلي والمشبوه، وحتى مع كون هذا السلاح متخصصًا في المشاكل الداخلية والعربدة والاستعراضات الفارغة، فمسؤولية السلطة أن توظفه، ولو بالحد الأدنى ليكون مساهمًا في حماية الناس وممتلكاتهم، وهي قادرة على ذلك لو أرادت، بدليل مهارتها الفائقة في اكتشاف مكان وصاحب كل قطعة سلاح مقاوم، ولو كانت بدائية ومعدودة الطلقات. ثم هنالك مسؤولية على فصائل المقاومة لاجتراح آليات مواجهة جديدة، حتى مع حالة الاستنزاف القصوى التي تعيشها.
أما أن يظل النشاط الاستيطاني سائرًا على هذا النحو، على صُعد التمدد البنائي والاستيلاء على أراضٍ إضافية بالقوة، وبالاستناد إلى نشاط المجموعات الاستيطانية الإرهابي فهذه جريمة كبرى، وطنية وأخلاقية، ولن يخفف منها ادعاء الانشغال بأولويات أخرى بعيدة عن مسار مواجهة العدوان، ولا التظاهر بالعجز وقلة الحيلة لسلطة بارعة في ممارسة تسلطها على شعبها، ومنعه عن مجابهة اعتداءات عدوّها، الذي لا يصيبه منها إلا الهجاء، فيما هو يمضي مطمئنًا آمنًا في إكمال مخططات المصادرة وضم أراضي الضفة الغربية، تاركًا أوهام السيادة وشعاراتها للمفتونين بها.