تمحوُر ظاهر "المصالحة" الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، على عنوان إجراء الانتخابات الفلسطينية، التي تم اعتمادها ضمن مرسوم الرئيس عباس الأخير، وفق التفاهمات التي تمت بين الطرفين. وقد تقرر إجراؤها بين أيار/ مايو المقبل وشهر آب/ أغسطس من العام الحالي 2021.
غير أن التركيز على إجراء الانتخابات بإشاعة أجواء الترحيب بها من بعض الفصائل، لا يفتح الباب لحوار جدي وحقيقي بقي مقفلاً على الساحة الفلسطينية.
الانتخابات وما أفرزته سابقاً من حالة انقسام دامٍ، وما ستفرزه في ظل أوضاع معقدة وصعبة، دون أرضية للنقاش الجدي والمُلزم لعموم السياسة الفلسطينية بفصائلها وأحزابها وحركاتها السياسية وبرامجها وتلاوينها المختلفة، لن تكون كافية للخروج من المأزق الرئيسي، في ظل عجز السياسة الفلسطينية وسيادة القبضة الأمنية للسلطة على الحريات العامة وتحت وطأة العدوان الإسرائيلي المستمر.
بعد عقد ونصف من إجراء آخر انتخابات تشريعية في 2005، تبدلت أحوال كثيرة في المشهدين العربي والفلسطيني، الثابت فيه الارتباط العضوي للسلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وممارسة سياسة جوفاء أمام العدوان والاستيطان والقتل والاعتقال والحصار، وفرض الحقائق على الأرض.. في هذه الأجواء يجري اجترار الإنجازات المنقرضة شيئا فشيئاً، فلا المجلس التشريعي يعكس رغبة وتطلعات الشارع الفلسطيني، ولا المجلس الوطني ولا الرئاسة كانا يمثلان الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة. فلا يمكن اعتبار مرسوم الانتخابات اليوم، على أنه إنجاز يُقدم للفلسطيني الشاهد على ابتلاع أرضه في جوف الاستيطان واتساع عملية التهويد والعدوان على الأرض والبشر والحجر، ورد على التطبيع الذي يسدد طعنات تآمرية للقضية الفلسطينية، وضد سياسة الاستبداد العربي التي تنكل باللاجئين وتدمر مخيماتهم.
لنعترف هنا بأن لدينا مراكمة كلامية تنظيرية عن المصالحة الفلسطينية، وعن شعارات تلاشى فعلها من برامج المنتخَبين والناخبين على الأرض. من يملك برنامج انتخابي يقدمه صباح مساء للمحتل بسياسة جوفاء، لن يكون بمقدوره تمثيل قضية عادلة بالتخلي عن ثوابت أساسية متصلة بعودة اللاجئين والتمسك بالثوابت والمقدسات وبكامل الأرض. لن يكون بمقدور المرشح تحت حراب المحتل تقديم النقيض الكفاحي النضالي، ولا الارتهان لأجندة إقليمية ودولية سيفيد الناخب الفلسطيني للحفاظ على حقوقه. المكتسب الأساسي من صعود طبقة المنتخبين مراكمة الفشل الكارثي، أضف الى ذلك أن بعض المؤسسات "الوطنية" يتمنى ابن الشارع أن تختفي من حياته، على سبيل المثال المؤسسة الأمنية التي تذكره بممارسات المحتل.
الدفق العارم للبيانات كل مرة، عن ضرورة إتمام المصالحة وإجراء الانتخابات، تحول لمخدر حقيقي للسياسة الرسمية الفلسطينية، وتكرار الغرق في مستنفع أوسلو الآسن خلق حالة لا جدل ولا حراك فيها، وعلى اساس قواعد اللعبة الديمقراطية. لم نشهد منذ آخر انتخابات رغبة طبيعية في انطلاق النقد ومراجعة عامة لكل السياسة الفلسطينية. البديهي بالأمر أن الانتخابات عملية ديمقراطية وطبيعية لمجتمع أنجز حراكه في تحقيق مؤسساته الوطنية والمدنية، وقيام أحزابه كأسوار يدافع فيها عن منجزاته الديمقراطية ومؤسساته المجتمعية والسياسية. في الحالة الفلسطينية (المتجذرة في أوسلو) وخللها المنعكس بالقبضة الأمنية على المجتمع الفلسطيني؛ شكلت الخطر الأكبر على نهوض الفلسطينيين.. إبعاد الأخطار لا يتحقق دون وقفة تأمل وحوار عميق، حول أسباب المأزق الفلسطيني وتجلياته ومظهره ووسائل تجاوزه التاريخية.
نقطة التحول لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، منظمة وفصائل وحركات سياسية، كانت الانخراط بشكل أو بآخر في حبل أوسلو الأمني والمالي، وهو تحول غير مسبوق لها، لم يستدعِ منها إعادة نظر شاملة في تدقيق الماضي، لا في مراجعة شكلية تُذيل ببيانات أمام كل مفصل تاريخي تنعطف معه السلطة الفلسطينية والقضية، بل في جرأة عالية للنقاش قبل أي انتخابات وأي حديث عن المصالحة. فالهياكل المستنسخة من أوسلو، من الرئاسة والمجلس التشريعي إلى السلطة، ارتبطت بأزمتنا الحالية، وستبقى في زمننا المنظور تتويجاً لسلسلة من الأزمات والمآزق المتجددة.
الجذر الأول للخلل كان في أوسلو، فجر كوارث رددها المسؤول في السلطة والحزب والفصيل، وعليه كان القطع مع الشارع والاستهتار به وبفاعليته، وشخصنة الحياة السياسية وإشاعة الظلم والفساد وانعدام الحريات والقانون. فلا يبنى مشروع سياسي بأجندة وطنية؛ بالقطع مع اللاجئين ومع فلسطين 48، والقطع مع شارع عربي يتوق للحرية والديمقراطية، من خلال ممارسة سادت وفرخت عقلية مريضة بالمفاوضات، وفشلت في حماية اللاجئين من خلال سياسة التملق للطغاة والمستبدين في المنطقة العربية.
وعليه يمكن عدّ الدعوة للانتخابات رسالة في صندوق بريد الأمريكي والغربي والإسرائيلي. ومن حيث الدلالة والتوقيت فإن مفهوم حركتي فتح وحماس والسلطة للانتخابات مرتبط بواقع مريض ومتردٍّ وإن صيغت ديباجة "التفاهم" عن المصالحة بإجراء الانتخابات في شعارات وطنية جذابة، فهي تبقى في جانب كبير منها "تكتيكية" ومظهرا دالا على عمق الأزمة التي تتعدى مرسوم ممارسة الفلسطيني حقه باختيار ممثليه وفق مبدأ حرية خياره، لكنها لن تكون يوماً تعبيرا عن بدائل للخلل وتوفير البيئة الصحيحة لكفاح الشعب الفلسطيني بقدر ما كانت غطاء للفشل والعجز.
أخيراً، مع تبدل الأحوال الكثيرة لواقع الشعب الفلسطيني، جراء العدوان المستمر، هل تريد السلطة وفصائلها إنجاز مصالحة حقيقية بالعودة لجذورها في الشارع الفلسطيني والعربي؟ أم تقر بانتخابات شكلية لنهاية مطاف استعصائي، لطلب ود أمريكي إسرائيلي، والرهان على إدارة أمريكية جديدة وحكومة اسرائيلية جديدة، لن تمنح الباحثين عن خلاص سوى الوهم المجرب على حساب القضية الفلسطينية؟