فلسطين أون لاين

الربيع العربي وعقلية الغيتو الإسرائيلية

...

العودة إلى أبرز المواقف الإسرائيلية التي تزامنت مع أولى علامات ثورات الربيع العربي، قبل عقد تعيد تذكيرنا، قبل أي شيء، بأن استغراق دولة الاحتلال ووسائل إعلامها في البحث الدائب عن الفوائد والأضرار التي ستترتب على هذا المفترق التاريخيّ بالنسبة إليها فقط، وذلك في خلافٍ تام مع معظم وسائل الإعلام في العالم كله التي انشغلت بأمور أخرى، مثل توق العالم العربي إلى الحرية وبناء الديمقراطية، إنما يعبّر عن استحواذ ما سماه بعضهم عقلية الغيتو عليها، والتي زيّنت لها سبيل التفكير الانعزالي إزاء حدثٍ جللٍ أثار دهشة العالم أجمع وحبس أنفاسه. ولخّص أحدهم هذا الاستحواذ في حينه بقوله "لا تعبأ إسرائيل كثيرًا في ما إذا كانت مصر ستنعُم بنظام حكم ديمقراطي أو ستبقى خاضعةً لنظام ديكتاتوري. ما يهمها فقط هو الحفاظ على اتفاق السلام!".

وعلى مستوى قادتها العسكريين، كان وزير دفاعها الحالي بيني غانتس قد بدأ ولايته رئيسًا لهيئة الأركان العامة للجيش في أواسط فبراير/ شباط 2011، ولدى اشتراكه في أول اجتماع عقدته لجنة الخارجية والأمن في الكنيست بحضوره، يوم 31 مايو/ أيار 2011، استعرض "التهديدات الماثلة أمام إسرائيل" في ذلك الوقت، واصفًا إياها بأنها أصبحت واسعةً للغاية، وأكّد، من جهة أولى، وجوب أن يبقى مستوى جهوزية "إسرائيل" الأمنية عاليًا، بسبب الغموض المُسيطر على الأوضاع في كل من مصر وسورية، وضرورة الانتباه، من جهة أخرى، إلى أن ثمّة لاعبًا مركزيًا جديدًا في الشرق الأوسط هو الشارع العربي، وأن وجود هذا اللاعب مع استمرار شبكة التهديدات الواسعة الأخرى يستلزمان زيادة الميزانية المخصصة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

وهو "استنتاج استراتيجي" اتّسق مع ما أعرب عنه وزير الدفاع آنذاك، إيهود باراك، وما صرّح به رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في أول تعقيباته على الثورات العربية، أبرزها قوله، في أثناء مراسم تنصيب غانتس، "إن الجيش الإسرائيلي هو ركيزة إسرائيل الأكثر أهميةً لضمان قدرتها على الحفاظ على وجودها، وإقناع جيرانها بأن يقيموا علاقات سلامٍ معها، وهو الكفيل الوحيد لضمان مستقبلها".

في واقع الأمر، حتى قبل "اتساع دائرة التهديدات الأخيرة"، كان الأمن هو القضية المركزية، بل والوحيدة التي تقف في رأس جدول أعمال السلطة الإسرائيلية. وفي كل مرةٍ يتمّ فيها بحث تخصيص الموارد، تحصل المؤسسة الأمنية والعسكرية على الميزانية التي تطلبها.

أما الخشية على اتفاق السلام فتعود، حتى برأي عديد التحليلات الإسرائيلية، إلى حقيقة أنه، على مدار الأعوام التي مرّت منذ توقيعه في 1979، ظلّ في إمكان "إسرائيل" أن تشنّ حروبًا وعمليات عسكرية على أطراف عربية، بما في ذلك شنّ حربين على لبنان (في 1982 و2006) وعملية "السور الواقي" في الضفة الغربية في 2002، من دون أن تخشى ردّة فعل عسكرية مصرية، كذلك كان في إمكان الجيش الإسرائيلي أن يجازف قليلًا في كل ما يتعلق بمجال بناء قوته العسكرية، ما دام ليس ثمّة خطر كبير عليه من مصر، غير أن الوضع الجديد ربما سيضطر "إسرائيل" إلى زيادة ميزانيتها الأمنية وتغيير سلم أولويات جيشها.

واعترى مواقف المسؤولين الإسرائيليين وجلّ النُخب الإسرائيلية حيال الربيع العربي قدرٌ كبيرٌ من الاستعلاء العنصري، فضلًا عن مظاهر فوبيا إزاء فرص نشوء مجتمع مدني وديمقراطي في العالم العربي. وكانت الحجّة الرئيسة التي تذرّع بها المتوجسون شرًا من الثورة المصرية انعكست بادئ ذي بدء في استنتاج إطلاقي، يفيد بأنه من ناحية منطقهم، في حال سقوط السلطة الحالية في القاهرة، فمن ستحلّ مكانها لن تكون سلطة ليبرالية وإنما سلطة إسلامية وربما إسلاموية. ولذلك ستكون هناك عواقب سلبية داخل الدولة. ومن شبه المؤكد أن يثير النظام الإسلامي صداماتٍ مع الغرب، ولا ريب في أنه سيفاقم الصراع مع "إسرائيل". وتحتاج نزعات الاستعلاء إلى وقفة أخرى.