فلسطين أون لاين

بعد انقطاع 9 أشهر

تقرير بهية وماهر.. لقاء 45 دقيقة من خلف الزجاج

...
بهية النتشة مع زوجها الأسير ماهر الهشلمون
الخليل المحتلة-غزة/ نور الدين صالح:

مشاعر الشوق تنتفض في قلبها الذي لا يزال يتنفس الحنين على الرغم من قسوة البُعد قسراً خلف "قضبان حديدية مُعتمة"، لم يبقَ فيها سوى الأمل باللقاء حتى لو أُوصدت جميع الأبواب؛ إلى أن اقتربت لحظة اللقاء لمدة لا تتجاوز 45 دقيقة.

خلال نوفمبر/ تشرين الثاني، كانت بهية النتشة في العقد الثالث من عُمرها، على موعد مع زيارة طال انتظارها لما يزيد على تسعة أشهر، لزوجها "ماهر الهشلمون" القابع في سجن ريمون الصحراوي، رنّ هاتفها مساء الأحد الـ 22 من ذات الشهر من اللجنة الدولية للصليب الأحمر؛ "تم عمل تصريح لكِ لزيارة زوجك ماهر".

دقت نبضات قلبها سريعاً وتراقصت مشاعر الفرحة داخلها، فراحت تحضر نفسها لخوض غمار زيارة محفوفة بالمخاطر، نتيجة تفشي فيروس "كورونا" داخل سجون الاحتلال وإهمال إدارتها توفير سُبل الوقاية؛ "ماهر كان خايف أزوره في بداية الأمر حفاظاً على سلامتي وعائلتي"، تحكي بهية ابنة مدينة الخليل المحتلة.

ما إن انتهت من تحضير أغراض الزيارة، حتى انهالت عليها دوامة من التساؤلات التي طرقت عقلها "كيف سيكون شكل الزيارة؟ وهل سيكون هناك وسائل حماية؟ والكثير من التساؤلات الأخرى"، ثم عادت لوعيها واستأذنت قلبها فلفظت "وكلت أمري لله وسأخوض هذه الزيارة".

بدأت الحكاية تنسج خيوطها في صبيحة اليوم التالي حينما صعدت بهية برفقة 25 آخرين من عائلات الأسرى إلى الباص المخصص لنقلهم، لكن دون اصطحاب طفليها "عُبادة ومريم" هذه المرّة، فما بين نقطة الانطلاق والوصول استغرق الطريق 12 ساعة.

التفاصيل كانت مُرّة، فمنذ أن وصلت بوابة "ريمون" الأولى حيث يقبع "ماهر" الذي أسره الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 2014، بزعم تنفيذ عملية دعس وطعن قرب مستوطنة "ألون شفوت" بين الخليل وبيت لحم، ويقضي حكماً بمؤبدين، أمضى منها أربع سنوات فقط، فرضت إدارة السجن عليها والأهالي برفقتها عدم خلع الكمامة مُطلقاً طيلة فترة الزيارة، حتى لحظة اللقاء من خلف الزجاج، كما تقول لصحيفة "فلسطين".

45 دقيقة

وما زاد الغصّة في قلب "بهية" التي قطعت تلك المسافة والوقت، بكل ما تحمله من المُعاناة، أن حاجزاً من الزجاج وقف حائلاً بينها وبين "ماهر" الذي استقرّت عدة رصاصات في أجزاء جسده العلوية، تكاد الرؤية من خلالها "شبه معدومة" كضوء خافت داخل غرفة خاوية، والحديث عبر سماعة الهاتف دون أن يُمعنا النظر في عيون بعضهما لبحث تفاصيل الحياة خلال فترة انقطاع الزيارة.

"اللحظات الأولى للقاء هي كمن ينفصل عن الدنيا وما فيها وينسى هموم تعب الطريق والوقت الزمني الذي استغرقه، بعد ما أشوفه بخير وصحة جيدة"، تحكي "بهية" عن أولى لحظات لقائها مع ماهر بعد هذا الانقطاع، وهي تتمنى حينها أن تتوقف عقارب الزمن لتبقى إلى جانبه.

وعلى الرغم من الإصابة الحرجة التي يعانيها "ماهر" الذي غيّبته على فراش المرض، وأجرى بعدها عدّة عمليات جراحية كانت إحداها زراعة "بلاتين" في يده، إلا أن مشاعر الفرح تجتاح أرجاء قلبه، فهو "شخص عاطفي وبريء ويمتلك مشاعر عالية" كما تصفه بهية، ثم تُكمل "يسرح بذهنه كثيراً وتنهال الدموع من عيونه فرحاً برؤيتي".

بدأ الزوجان يتبادلان الأحاديث بينهما والاطمئنان عن أحوالهما والأطفال والأهل، إلى أن أخبرته برفض أحد السجانين إدخال الأغراض التي أحضرتها معها خلال الزيارة، ومن بينها "جاكيت" يحميه من برد الشتاء وهو ما أغضب "ماهر".

"تسعة أشهر وأنا أنتظر جاكيت أشعر فيه بالدفء".. خرجت هذه الكلمات من الأسير "ماهر" ضمن حوار قصير بينه وبين السجان المحتل والقهر يتسلل إلى قلبه، بعدما منع أحد السجانين إدخال "جاكيت" جلبته زوجته، خلال الزيارة، والذريعة كانت أن نوع القماش "فيليز" الذي يدرجه الاحتلال ضمن قائمة ما يسميها "الممنوعات".

حاجة ماهر الماسة لهذا "الجاكيت" وأغراض أخرى معه، زادت من غصّته، لكنه اشتاط غضباً أكثر من رد السجان عليه عندما طلب منه السماح بإدخال الأغراض؛ فكان "حرام عليك تضيّع وقت الزيارة بموضوع الجاكيت.. انتبه لزوارك".

وتبقى تلك الزيارة رغم ما مرّ بها من "منغّصات"، عالقة في ذهن "بهية" لفترة تزيد على شهر، في حين يظل "ماهر" يقلب بذاكرته تفاصيل الزيارة لعدة أشهر، وفق ما تقص "بهية" "فهذه الزيارات هي السبيل الوحيد الذي تزيد الأمل في قلوب الأسرى إلى حين الحرية".

سنة صعبة

تحاول "بهية" أن تبتلع آلة الزمن لترجع إلى الوراء عدّة سنوات، حيث بداية الأسر التي حملت في ثناياها قسوة التواصل مع نصف قلبها الآخر، "أول سنة كانت صعبة كثير وهو قابع في سجن الرملة، لم يكن أي تواصل مباشر بيننا إلا من خلال مُحامٍ عند زيارته".

مضت تلك الفترة، ثم انتقل إلى سجن "إيشل"، لكونها تضم ما يوصف بأنه مستشفى وسيجري فيها عدة عمليات جراحية، فأصبح التواصل من خلال الهواتف النقالة لمدد لا تزيد على خمس دقائق، تقول بهية ومشاعر الألم تجتاح قلبها، إلى أن استقر في "ريمون".

تسرد "بهية" قصة من بين قصص المُعاناة التي عايشتها عائلتها، وهذه المرّة طالت طفليها "مريم وعبادة"، حيث منعهم الاحتلال من زيارة والدهما في بادئ الأمر، والذي استمر لمدة سنة ونصف السنة، بذرائع أمنية واهية.

مرّت الأيام كـ "السلحفاة" بالنسبة لبهية، من شدة قهرها على حرمان طفليها من الزيارة، إلى أن خرجت عن صمتها وتقدّمت بشكوى لدى محامٍ لمتابعة القضية، إلى أن سُمح لهما، كما تقص.

فبعدما تم السماح لهما بالزيارة، دخل عُبادة عامه الثامن، وهنا يمنعه الاحتلال من الدخول عند والده ومعانقته خلال الزيارة، وتمكنت مريم فقط من ذلك، وهنا "انهالت دموع عُبادة وهو ينظر لشقيقته تُعانق أباه دونه".

الأب والأم معًا

وتمضي الأيام والسنون، لكن بهية ترفض الاستسلام للواقع الذي فرضه غياب زوجها عن البيت، فقد أخذت على عاتقها القيام بدوره "قدر استطاعتها" في تربية طفليها وإعالة بيتها "رغم الصعوبة التي تواجهها".

"غياب ماهر ترك فراغا كبيرا في البيت، فهو السند الذي يجعل للحياة نبضا، عدا عن الأعباء التي تركها لي مثل التربية والتعليم"، تقول "بهية" ثم تتنهد بعد نفس عميق "هذا واقع إجباري فُرض عليّ، وكثيرا أتمنى أن يكون موجودا يحمل عني أعباء، والحمد لله على كل حال".

وتحاول التغلُّب على هذا الواقع من خلال ممارسة عملها "مُعلمة" في إحدى المدارس الحكومية، ثم تعليم أطفالها وقضاء وقت من اللعب واللهو مساءً، الذي تتجمع فيه العائلات مع بعضها، تُتابع "بهية".

  • شايفة يا ماما أنا صرت زلمة وأعتمد على حالي وشخصيتي قوية!
  • صح، الله يحميك ويرجع أبوك سالما غانما.

هذا جزء من حوار دار بين عبادة الذي دخل السنة الـ13 وأمه "بهية"، محاولاً مساندتها والتخفيف من الأعباء المُلقاة على عاتقها.

ورغم الغياب وما يحمله من قسوة، فإن "بهية" زرعت الأمل في قلبها قبل طفليها، بأن "ماهر" سيعود ويلم شمل العائلة من جديد من خلال صفقة تبادل أسرى تبرمها المقاومة الفلسطينية.