يجلس رئيس السلطة منهمكا هذه الأيام في مشاوراته الداخلية مع جهات حكومية وحركية قبل اتخاذ قرار مصيري يقضي بإصدار مرسوم بمواعيد الانتخابات المرتقبة، فالرجل في خطاباته المتكررة يظهر حرصه على توحيد شقي الوطن وإنهاء الأزمات الداخلية وتجديد الشرعيات، التي أصبحت مصدرا للحرج والإزعاج أمامه في معظم لقاءاته الخارجية لرغبة الأطراف المختلفة إقليميا ودوليا في إجراء انتخابات فلسطينية تفرز قيادة قوية وفعالة قادرة على إكمال الدور المرسوم لهذه السلطة.
لكن يمكن فهم نظرته للوحدة وتجديد الشرعيات ومعالجة الأزمات بطريقة مختلفة عن المنظور الوطني والرؤية الشاملة التي يؤمن بها شعبنا وقواه الحية، فقناعته الشخصية تتجه لإعادة ترسيخ قوة الحزب الحاكم، وهو حركة فتح، دون السماح بالشراكة السياسية مع بقية الفصائل، لاعتقاده أن الحركة هي الأقدر على قيادة المشروع الوطني، ولإيمانه بأن باقي القوى تشكل مصدر قلق له ولسلطته، وذلك لتعارض برنامج الفصائل التي تؤمن بالكفاح المسلح مع برنامجه السياسي الهادف إلى إقامة السلام الشامل مع الاحتلال وتجريم العمل المسلح.
فتجديد الشرعية يعني له الحصول على فرصة أخرى للتنصيب في ولاية جديدة، وبذل كل جهد ممكن لإضعاف حظوظ خصومه السياسيين سواء داخل حركته أو القوى الأخرى، فهو يجيد اللعب على المكشوف وعلى غير المكشوف، فهو دوما قادر على التعاطي مع أي موقف أو مبادرة، ولم يتعلم يوما رفض أي مقترح، لكنه بقليل من الدهاء وكثير من الخبرة القديمة يلتف على هذه الخطوات خشية أن تلتف حول عنقه، ويهرب في كل مرة من الاستحقاقات الوطنية، معللا ذلك بأسباب مختلفة متعلقة بخصومه أو محملا الاحتلال مسؤولية التخريب والتعطيل.
ولا أخفي عليكم أنه كلما يفكر بالمرسوم يتذكر وضع الحركة المهلهل وأقاليمها المبعثرة وصراعها القيادي وارتفاع منسوب الحرد في صفوفها وضياع الموازنات مرارا دون أن يجد لها أثرا في إعادة بناء التنظيم أو تهيئته بطريقة تجعله قادرا على إعادة ترتيب الصفوف استعدادا لاستحقاق الانتخابات.
والأدهى من ذلك ما يأتيه من تقارير صباحية في وجبات البريد التي تحمل تحذيرات عن حالة تململ داخل فريقه ومقربيه ومحاولاتهم الدائمة البحث عن ترتيبات لهم في الوضع الجديد، منها مع خصمه الأكبر داخل الحركة، وأخرى ما تتم مع شخصيات عربية سياسية وأمنية لحجز مقاعد قبل ضياع الفرص.
ثم يعود بالذاكرة فيساوره الخوف وهو ينظر لحركات سياسية ضخمة تجتاح الساحة الفلسطينية وتضرب جذورها داخل المجتمع وترتب صفوفها وتعاظم من مشروعها الذي أكسبها قوة في المشهد السياسي والميداني ومنها (حركة حماس)، وهذا ما تفتقده حركته التي ساهم في تقليم أظافرها ونزع سلاحها وصهر عوامل ومرتكزات القوة فيها.
وقد بدا مرتبكا وعاجزا لأنه لا يجد ركنا شديدا يَأوي إليه داخل فتح بعد أن هشم قوتها بسياسته الإقصائية الانتقامية، التي منعت هذه الحركة من التعاظم وجعلتها كالجسد المريض الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو كالرجل العقيم الذي أصبح غير قادر على إنجاب الفدائي الفلسطيني الذي يحمل البندقية ويفجر الثورة والانتفاضة.
فالأمر على ما يبدو معقد حتى الآن في ظل المخاوف التي تعتري عباس وفريقه، فهم لا يريدون ضمانات لإجراء أو إنجاح الانتخابات، إنما يريدون العودة للمشهد من جديد بقوة وأكثر شرعية، وليس في وارد تفكيرهم الابتعاد عن السلطة أو تخيل جيل وكادر جديد يقود الشعب الفلسطيني لأن الثمن سيكون كبيرا.
لذلك فإن ما يجري في كواليس الرئاسة يشي بوجود أزمة عميقة نتيجة القلق والخوف مما هو قادم، وفي تقديري فإن تأجيل المرسوم لأسباب وطنية أو فنية أو إدارية وارد حتى الآن، أو لذرائع أخرى، لكن في لحظة ما قد يوضع عباس في الزاوية ويكون مضطرا لإصدار المرسوم، ثم يذهب لتعطيل ما يترتب عليه لاحقا والأسباب كثيرة والشواهد أكثر.